أخطأ من ظنَّ أن توطيد الأمن والأستقرار في البلد مسؤولية الحكومة وحدها. بل هيَ مسؤولية الجميع أحزاباً وكتلاً سياسية وقيادات ومرجعيات دينية وأفراد. وإن الخلافات السياسية ليست مبرراً للتغاضي عن العمليات الأرهابية أو الفساد المالي والأداري الذي ينخر جسد الدولة. فالكل مسؤول أمام الله والشعب والضمير. وقد حرص الإسلام على تطبيق القوانين بعدالة ومساواة على جميع فئات المواطنين في الدولة، لمنع آفة التطاول والتغول عليها. ليجد المواطن الأمن والأمان في ظلها. والعلاقة بين الدولة والمواطن علاقة تبادلية تكاملية. تقوم على تحقيق المصالح العامة للأمة، لذا قررت الشريعة الأسلامية مراعاة الحقوق والواجبات, حتى تنعكس ايجاباً من أجل البناء القويم والتنمية الشمولية في جميع مناحي الحياة، ومقاومة كل مظاهر الفساد والعبثية. ولا بد لنا هنا أن نتحدث أولاً عن واجبات المواطن الصالح تجاه المجتمع والدولة التي يعيش في ظلها لتكتمل الصورة.
وأول الواجبات: صون أمن المواطنين وحفظ وتأمين دماء وأموال وأعراض الجميع، لأن من حق المواطن على الدولة أن توفر له الأمن على نفسه وماله من الاعتداء بأي وجه، وهو حق ثابت شرعاً لكل مواطن ، لقول الرسول الكريم: (( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) ولتقريره صلى الله عليه وآله وسلم هذا الحق في دولة الأسلام، في صحيفة المدينة: ((وأنه من خرج آمن، ومن قعد آمن بالمدينة)) وقوله: ((وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة)) ولإجماع العلماء على عصمة دم المسلم وماله بالإسلام، وعصمة دم الذمي وماله بعقد الذمة.
وثاني الواجبات: الطاعة والخضوع لقانون الدولة وسلطتها العامة، فيرجع المواطن الى قانون الدولة مهما كان جنسه أو عرقه أو طائفته في حل مشكلاته ونزاعاته ، لا إلى قانونه هو وسلطته، ولا إلى قانون العشيرة وسلطتها، كما لا يجوز للمواطن أيضاً أن يتطاول على قانون الدولة فيتحايل ويمتنع عن تطبيقه على نفسه أو على أقاربه أو التابعين له، مستقوياً بنفوذه أو بنفوذ حزبه أو طائفته أو قوميته أوعشيرته. فالخضوع لقانون الدولة والسلطة العامة واجب وفرض عين على كل مواطن، مهما كان دينه أو مذهبه أو معتقده، ودليل ذلك قوله عليه السلام في صحيفة المدينة: ((وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مردّه إلى الله عز الله وجل وإلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم)). وليس المرد للعشيرة وتهديد الآخرين بها بالباطل. وعلى وجوه القوم ورؤساء القبائل والعشائر ألا يعطوا أذناً صاغية وألا يكونوا عوناً للمجرمين والمتجاوزين على الدولة والمجتمع والأفراد.
وثالث الواجبات: الولاء للدولة وعدم التآمر عليها بأي شكل من الأشكال والأخلاص لها، ولا يعمل فيها بالإفساد والشغب وإتلاف الممتلكات العامة أو الخاصة، ويحتم الواجب الشرعي والوطني والأخلاقي إخبار الدولة وإشعارها بكل كيد وتآمر عليها يعلمه المواطن الشريف ذو الدين والضمير الحي. والدليل قوله عليه السلام في صحيفة المدينة مقرراً: ((وأنّ بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم)) وهذا هو في حقيقته الولاء والإخلاص لله والدولة.
ورابع الواجبات: المشاركة في صون الأمن العام للدولة: من الأولويات أن تسعى الدولة لتحقيق الأمن العام داخل حدودها، بالقضاء على الجريمة، ومطاردة المجرمين، ومقاومة المشاغبين، ولا يجوز لأي فرد أو جماعة أن تتدخل بنفوذها لحماية المجرم، أو التستر عليه و لا يجوز لأي كائن من كان أن يكون عوناً للظالم المعتدي من أقاربه أو معارفه أو تابعيه أو مناصريه على أمن الدولة والمجتمع، كما قال نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم في صحيفة المدينة: ((وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى عطية ظلم، أو إثماً أو عدواناً أو فساداً بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم)). وتقتضي المشاركة في صيانة الأمن العام تسليم المجرم للسلطة مهما إختلف معها في سياسة أو معتقد أو رأي, وعدم إيواء المجرمين أو نصرتهم بدافع رشى أو قرابة أو إنتماء طائفي، وقد شدد الرسول الكريم في هذا الواجب على مواطني الدولة في المدينة المنورة حين قال في الصحيفة ((وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر من يريد بوطنه شراً ومن نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة)).
الأمن مسؤولية مشتركة بين المواطن والدولة. ومن مشاهداتي في بلاد الغرب. أن الفرد عندما يرى أو يسمع أو يشعر بأن مخالفة للقانون أوصراخاً أو شجاراً حصل في أحد الدور, أو ان سائقاً يقود سيارته بسرعة تفوق المحدد قانونياً, او يستشعر بشيء مريب يبادر بالأتصال بالشرطة فوراً. وما هي إلا لحظات حتى ترى الشرطة قد حضرتْ . وقامت بالأجراءات اللازمة. وتفحصتْ المكان. وسألتْ جميع المجاورين وأخذت العناوين. وعندما تستوقف الشرطة أحداً لأي مخالفة تسأله عن هويته , ورقمه القومي ,وتدخلها بكمبيوتر سيارة الشرطة, فتظهر صفحة هذا الشخص , وفيها المعلومات الوافية عنه, فتتصرف الشرطة وفق سجله. فإن كان نظيفاً عومل بشكل مختلف عمن تظهر في صفحته مخالفات أو جنح , أو كونه نزيل سجون أو مدمن كحول أو مخدرات. فالكل مسؤول عن الأمن والنظام وتطبيق القانون. ولا توجد عندهم ثقافة (آني شعليه) فهي عيب عندهم ومَنقَصَة. والقانون في بلاد الغرب يُسائِل كل من يُخفي معلومة تفيد بكشف الجريمة. وتقود لمعرفة الجاني, أو من إرتكب جنحة أو مخالفة. وهذه الظاهرة تدل على مصداقية روح المواطنة الصالحة وحب الوطن . لأن الخير يعم الجميع والضرر سيصيب الجميع والكل مسؤول.
سردت هذا كمقدمة للحديث عن مسؤولية الفرد تجاه أمن وطننا العراق. لا سيما أن الأمن فيه والتحديات الخطيرة التي يتعرض لها الوطن جراء العمليات الأرهابية طالت العراق جميعاً دون إستثناء, إستهدفت الشرائح الفقيرة وبسطاء الناس . وأرعبت المجتمع , سواء بالتفجيرات بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة أو بكواتم الصوت, أو عمليات الهجوم على العوائل ونسف الدور على من فيها ,أو قتل نساء أو أطفال أبرياء على الأسم والهوية أو التهجير القسري بدوافع طائفية شريرة. مما يستدعي مراجعة لواجب المواطن تجاه أمن بلده, وما مطلوب منه شرعاً وقانوناً وأخلاقاً.
لا شك أن السلطة مسؤولة بالدرجة الأولى ومسؤوليتها معروفة ومشخصة. وقد تحدثت عنها كثيراًكما تحدث العديد من الكتاب والمحللين والمختصين . وطال الحديث عن هذا والخلل واضح. والمعالجات التي يفترض أن يُباشر بها لم تكن كافية وغير مقنعة. وأسباب هذا واضحة جلية في فشل حكومة المحاصصة. لما يعتريها من شد وجذب وعداء مخفي وسافر. حتى بات العلاج صعباً جداً. ولا خلاص إلا بالتغيير الشامل وإعادة هيكلة الدولة أولاً , وهيكلة القضاء وتطويره ثانياً . والأهم من هذا هيكلة القوات المسلحة والأستخبارية منها, وإبعادها تماماً عن الأنتماء الحزبي والطائفي والعرقي. وإعادة الخدمة الألزامية والأهتمام بالتدريب المهني المتطور اللازم, وإعادة التسليح بعد إستحداث قوات خاصة لمكافحة الأرهاب, والكشف عن الجريمة المنظمة, وإعلان المناطق الحدودية مناطق عسكرية لتأمينها, وإستحداث محاكم خاصة بالأرهاب وخضوع البلاد لأحكام الطوارئ.
وعلى المواطن واجبٌ كبير وهو المهم . لأن الحكومة وحدها بدون دور فعال للمواطن لا تتمكن من ضبط الأمن وتحقيق الأستقرار المنشود. وسنغرق في بحر من الدماء ,وستبقى المسيرة التنموية معطلة.
وهذا يستدعي إشاعة ثقافة الشعور بالمسؤولية من قبل الجميع. ليكون الشعب كله رجال أمن. فلا يعقل أن يأتي شخص بسيارة الى داره ويفخخها ولا يشعر به أحد من أهل داره أو اقاربه, أو أصدقائه. فمتى آمن هؤلاء بان الأِخبار عن هذا المنحرف واجب ديني وأخلاقي ووطني. سنقضي على الأرهاب والجريمة المنظمة التي تعصف بالبلاد. وعندها سيقوم المواطن بالأبلاغ عن هذا المجرم قبل حدوث الجريمة. ولا بأس من تقديم مكافأة لكل من يقدم المعلومات عن كل عمل إرهابي, أو يكشف عن عصابة تستهدف المواطنين في أموالهم وأرواحهم. والأحتفاظ بسرية الأخبار سراً وكتمانه عن الآخرين. وعلى كل من يعلم أن في بيته من يبيت النية أو يساعد أو يعمل على تنفيذ أي عمل إجرامي أن ينصح من يعلم إنه قادم على الأجرام. ويبين له خطورة عمله وعظم الجريمة التي يقدم عليها ويلوح له بالتهديد بإخبار السلطات الأمنية عن عمله ولا يتستر عليه. وهنا يتم إصلاح النفس الشرية. وقد يكون من الأفضل أن تتضمن مناهج التعليم في المدارس والجامعات محاضرات ودروس لتثقيف الدارسين عن واجب الفرد تجاه أمن وطنه.
وهناك دور نتمنى على المرجعيات الدينية القيام به وهو دعوة التابعين والمرتبطين بها الى ضرورة الأبلاغ عن كل من يجرم بحق الشعب. وأن إخفاء المعلومات هو إشتراك بالجريمة. وإنَّ التستر على المجرمين حرام. وإن الأخبار هو واجب وتكليف شرعي. وهنا يكون للمواطن دور وطني فعال لتأمين سلامة الوطن .
أما الأحزاب والمنظمات فالمفترض بها أن تكون خلايا نشطة لتقصي عمل المخربين. وجمع المعلومات عنهم وإبلاغ السلطات المختصة عن كل نشاط مريب. عكس موقفها الحالي المتستر والمتفرج والمتصيد للسلبيات فقط, وأحياناً أبداء الفرح والسرور عند أية نكبة. وعلى كل نائب وموظف عام أن يعتبر نفسه مجنداً للعمل الأستخباري من أجل الحفاظ على الأمن ومحاصرة الفساد والقضاء عليه. فبدون الأمن لا يمكن أن تقام المشاريع وتستحدث فرص جديدة للعمل, ولا فرصة للتنمية أن تنشط وتتفاعل مع متطلبات المجتمع الحديث ولا يمكن للديموقراطية أن تزدهر وتتطور وتحقق ما نصبوا له. الكل مسؤول عن إستتباب الأمن وليس الحكومة وحدها فاليد الواحدة لا تصفق. فكيف إن كانت هذه اليد مكبلة بالمحاصصة. فأمن العراق بذمة الجميع. وملعون كل من يتنصل عن واجبه ومشكولةٌ ذمته.