حينما طُرح مشروع (اجتثاث البعث) على طاولة المداولة بعد السقوط واعتمد لفترة قصيرة ثم تم العدول عنه لاحقاً أو تجميده نتيجة للطعون والاعتراضات وتحت ذريعة المصالحة الوطنية واللُّحمة العراقية وعفا الله عما سلف، وعاد البعثيون على إثر ذلك إلى ممارسة حياتهم الاعتيادية وانشطتهم اليومية وتبوأوا من جديد المناصب العليا في الدولة وفي الوزارات والدوائر المتربطة بها... ظن الناس أن العراق بصدد طي صفحة كان لابد من طيها توطئة للاستقرار والازدهار.
وبصرف النظر عن فرضية الثمرة أو المصلحة المترتبة على رفع اليد عن مشروع (اجتثاث البعث)، فمما لاشك فيه أن عودة البعثيين إلى بنية الدولة العراقية الفتية متمثلة بأجهزتها الإدارية والعسكرية والسياسية لم يكن مبرمجاً ولا ممنهجاً بصورة صحيحة، فلم تكن هنالك معايير استخباراتية أو رقابية صارمة لدفع غائلة المشمولين بإلغاء قانون الاجتثاث ومن ثمّ اندماجهم في النسيج الاجتماعي والجهاز الإداري للدولة، مع أن الاحتياط يقتضي أن تمرر الاجهزة الاستخبارية والرقابية هؤلاء البعثيين عبر صمام أمان محكم أساسه سوء الظن بهم، وقد قيل في مشهور الخبر: إن سوء الظن من الحزم، فإن ذلك هو الأجدر والأولى والأحوط من فتح الباب لهم على مصراعيه، وكان ذلك سيسهم في معرفة المصلح منهم من المفسد وتمييز الخبيث من الطيب.
إن هذا الخلل الاستخباري في تيسير عودة الكوادر البعثية إلى مواقعها التي شغلتها سابقاً و إتاحة الفرصة لها لتبوء مواقع جديدة من دون تشديد رقابي ولا متابعة استخبارية قد أدى فيما بعد إلى تدهور أمني شامل، إن الثقة الممنوحة لأعضاء الحزب المنحل ليست في محلها فهي التي فسحت المجال واسعاً للمفسدين منهم بالعَبث بالأمن القومي العراقي وعبّدت الطريق أمام العناصر التي لم تزل موالية للنظام البائد بالتعاون مع قوى الإرهاب والتخريب المحلية والإقليمية، ما أسفر في نهاية المطاف عن تردي الاوضاع في عموم العراق، بل إن الأجهزة الأمنية (الدفاع والداخلية) ذاتها قد اصبحت مخترفة من قبل هذه العناصر أو من قبل المتعاونين معهم وتشكلت في أروقتها أنوية (خيانة) تعمل بحذر ومن وراء الستار... فأضحى أمن المواطن العراقي في مهب الريح وبات مصيره أشبه بسفينة تتقاذها الأمواج العاتية من كل حدب وصوب.
وكدليل على هشاشة وضعف الأجهزة الرقابية والاستخبارية: السماح لعشيرة صدام وأقاربه (من الدرجة الثالثة والرابعة...) بحرية الحركة في نطاق مناطقهم ومدنهم وتواصلهم مع ذويهم في الخارج، واتاحة الفرصة لهم بمزاولة كافة الفعاليات والنشاطات، بل وغض الطرف عن أنشطتهم المشبوهة أو التستر عليها... ومن جملة تلك الانشطة التنسيق مع الجماعات الارهابية العابرة للحدود واستقدامها إلى الداخل، والحصول على الدعم المالي واللوجستي من الدول الراعية لها في المنطقة والعالم.
إن بقايا عائلة صدام وأعوانه في العراق أشد خطراً وضرراً على استقرار البلاد وأمنها من مفسدي البعث الذين أفلتوا من الرقابة بعد إلغاء قانون الاجتثاث.. إن خراب العراق الآن وفي المستقبل منوط ومرهون بوجود هذه الفئة الثكلى بديكتاتور العراق المقبور، فهي اللاعب الأكثر شغباً على الساحة العراقية والإقليمية... بل أقول: إن عمليات التخريب والتفخيخ التي تحصل في عموم العراق إنما تتم بتعاون وتنسيق تام بين ثلاث فئات: أقرباء صدام في تكريت وما حولها، ومفسدي البعث المنخرطين في أجهزة الدولة العليا، والقوى الدولية الراعية للارهاب ولاسيما الإقليمية منها المستفيدة من بقاء العراق ضعيفاً ومفككاً. يضاف اليها القيادات الكردية الساعية إلى الانفصال والمستعدة للتعاون مع كل عدو للعراق حتى مع الشيطان.
لقد كان من نتائج هذا التراخي على المستويين الاستخباري والرقابي ترك الحبل على غاربه لأولاد سبعاوي وذئباوي وبقايا عائلة صدام وعشيرته المتنفذين في تكريت وما جاورها في تنفيذ وتدبير جريمة العصر في قاعدة (سبايكر) الجوية، والتي راح ضحيتها اكثر من 1700 شهيد من خيرة شباب العراق، وقد اثبتت التحقيقات الجارية مدى الصلة الوثيقة التي تجمع بقايا عائلة صدام بداعش.