كان عليّ أن أصاحب جدتي وأساعدها في السير من بيتها في باب المعظم إلى بيتنا وهي تئن وتعاني من أوجاع رجليها. وكان طريقنا يمر بكباريه ملهى الجواهري.
وسوس بي الشيطان أن أعطيها فرصة للتفرج على ما يجري في الملهى. وصلنا إلى المدخل فقلت لها إن هذا مستشفى وفرصة لاستشارة الطبيب بشأن رجليها. «إي والله يا ابني. رجلي ذابحتني». اشتريت تذكرتين ولمحت وفهمت من وجه البائع أنه كان يقول لنفسه: «اشلون زمان؟! يا ويلي على شبابنا!».
لم تكن جدتي قد دخلت أي مستشفى في حياتها، وطبعا ولا أي كباريه. بدت على وجهها معالم العجب وهي تنظر يمينا وشمالا. «والطبيب وينه؟» سرعان ما بدأ الزبائن بالتدفق واحتلال مقاعدهم وطاولاتهم وجاءهم النادل بما طلبوا من المشروبات. وطلبت لنا قنينتين من السفن أب. شربت منها وانتعشت ثم قالت: «يا عيني عليهم. كل هالشباب توجعهم رجلهم؟».
ارتفعت الستارة وأخذ العازفون أماكنهم وراحوا يوضبون آلاتهم من عود وكمنجة وطبل... إلخ. وانطلقت على المسرح الراقصة المصرية كواكب بثياب الرقص الشرقي على إيقاع الموسيقى والجمهور يصفق ويهتف ويرقص.
«ولك خالد عيني. هذي شلون مستشفى؟ وين جبتني هنا بهالمكان؟ والناس شلون راح يفتكرون عني. امشي طلعني من هنا».
ولكنني أقنعتها بالتريث والصبر والاطلاع على ما لم تره في حياتها. أذعنت وجلست وأخذ الحاضرون يتفرجون علينا أكثر مما يتفرجون على المسرح وما يجري فيه. ولا شك أنهم كانوا يشاركون بائع التذاكر في ظنونه.
سرعان ما انتهى دور الرقص وراح العازفون يعيدون تظبيط أوتارهم حتى خرجت المطربة سليمة مراد وراحت تغني أغانيها الخالدة: «هذا مو إنصاف منك، غيبتك عني تطول، الناس لو سألوني عنك، شارد أجاوبهم شأقول...».
نظرت في وجه جدتي فوجدتها تلين وتنعطف وتشارك في المتعة والاستئناس. مالت برأسها قليلا إلى الأمام لتشنف أذنيها وتستمع. اهتزت شفتاها وكأنها تردد ما كانت تنطق به سليمة من الكلمات. آن لنا أن ننصرف فالتفتت إليّ تقول: «يا ابني خلودي، عليك الله لا تقول للناس هالشغلة هذي. الله يغفر لكن الناس ما يغفرون. الحاجة راحت للملهى تتفرج على الرقاصات، وكل هذا؟».
وعدتها بالكتمان وألا أنطق بكلمة عن هذه الزيارة المارقة ومشينا للبيت لتتوضى وتصلي وتستغفر على عادتها.
مرت أيام وسمعتها تتكلم في البيت مع نساء الأسرة والجيرة: «ويا حبايبي، بعدين طلعت هالرقاصة المصرية، وكلها تلمع بالجواهر والليلو... ووراها طلعت المطربة اليهودية سليمة باشا وقامت تغني، أوه! يا ريتكم سمعتوها: (قلبك صخر جلمود ما حن عليّ)»!