من أبرز مايميّز السيرة النبوية الشريفة، أن الحكم البالغة فيها لاتنقطع. فلو ظلّ المرء يكتب عن مناسبة واحدة طيلة حياته، لوجد نفسه يكتب عن الجديد البليغ الممتع طيلة حياته، ولنفد حبره، ومااستطاع أن يلم بالموضوع.
والوقوف عند الهجرة النبوية الشريفة، تدخل ضن هذا الإطار، لأن عجائبها لاتنقطع، والمداد لا يستطيع أن يؤدي حقّها، مهما كان صاحبه متمكنا في البحث عن خباياها وأسرارها.
وفاء الكافر: استعان سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعبد الله بن أريقط الليثي، وكان مشركا على دين قريش، ليدلّه عن الطرق السليمة الآمنة إلى المدينة، فتميّز دليله بخصلتين، سيظلّ التاريخ يذكرهما ..
الخاصية الأولى: كان رجلا محترفا، عارفا بخبايا الصحراء وأخطارها، لم يرتكب خطأ ولاحماقة. خاض بسيدّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الطرق الوعرة، والآمنة في نفس الوقت إلى أن أبلغه مأمنه.
الخاصية الثانية: حين علمت قريش بهجرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، منحت مائة 100 ناقة، لكل من يأتي به حيا أو ميتا. وهي ثروة يحلم بها الغني قبل الفقير، والقوي قبل الضعيف، والسيد قبل العبد. ورغم ذلك لم تحرك في دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم، الخيانة والغدر. وكان باستطاعته أن يتحصل على الثروة والغنى والقوة، بأسهل الطرق وبأقل التكلفة. فقد تواعد مع سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يأتيه لغار الثور بعد انقضاء 03 أيام، وهي مدة كافية وآمنة، ليخبر فيها قريش عن مكانه، وينال الجائزة، دون أن يتعرّض للمهالك والمصاعب. لكنه لم يبدّل ولم يغيّر، وبقي وفيا أمينا، لمن وثق به ، وطلب منه أن يدلّه عن الطريق، وهو المشرك على دين الآباء، وغير المؤمن برسالة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الأمانة لادين لها. ومن الوفاء أن تعترف بأمانة ووفاء من خالفك الدين والعقيدة. وإنه لمن الأمانة والوفاء، أن يذكر دليل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الكافر بنبوته ورسالته، مع كل الذين شاركوا في إنجاح الهجرة، سواء كانوا من قريب أو بعيد.
الله وحده من وراء نجاح الهجرة: من أعظم مايميّز حياة، وسيرة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله وحده، هو الذي كان من وراء نجاح دينه، ونبيه صلى الله عليه وسلم، حتّى لايدعي أيّ أحد مهما كان، أنه لولاه مانجحت الدعوة، ولاانتشر الاسلام. والهجرة النبوية، تدخل ضمن هذا السياق.
دليل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان كافرا لايؤمن برسالته، حتى لايقول قائل إن الذي أنقذه مؤمن. فالله تعالى وحده، دون غيره، هو الذي أنقض نبيه وصفيّه صلى الله عليه وسلم. وجعل الكافر وسيلة ليدله على الطريق، بدليل أن قريشا استطاعت بفضل ماتملك من مهرة في تتبع الأثر في الصحراء، أن تقف على المكان الذي يختبىء فيه سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبه أبي بكر، ولم توفق إلى ذلك، بفضل الله تعالى. وكأن ربك يقول للدليل الكافر، هنا انتهت مهمتك، حتى لاتعتقد أن نجاة نبي ورسولي بفضلك، وبفضل براعتك ومهارتك في الإختباء، والنجاة من الأعداء.
العمل الجماعي نجاح كل مسيرة: شارك في إنجاح الهجرة، مجموعة من الأشخاص، شملت عدد من المسلمين، وفرد من آل البيت، ومشرك. ولايمكن لعملية صعبة، أن يعلم بها المسلمون جميعا، وإلا لتفطنت لها قريش وقضت عليها في المهد. ومن الإنصاف أن يعطى كل من شارك في الهجرة والإعداد لها، حقّه من الاحترام والتقدير، دون تفضيل ولا تمييز، لأن كل منهم شارك بطريقته، وحسب المهام التي كلّف بها.
والسؤال الذي يجب أن يطرحه المتتبع للسيرة النبوية، وللهجرة بالذات، حين يتطرق للأشخاص الذي شاركوا في الهجرة. هل أدى كل منهم المهام التي كلّف بها على أكمل وجه؟. لامحالة، سيجدهم كلّهم دون استثناء، قاموا بالمهام التي كلّفوا بها على أحسن حال، وأكمل وجه، وهم ..
علي بن أبي طالب الذي ضحى بنفسه وهو الشاب اليافع. وأسماء بنت أبي بكر التي تسلّقت الجبال، وهي حامل في شهرها السابع من أجل إيصال الطعام. وعبد الله بن ابى بكر، الذي كان ينقل أخبار مكة، لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعامر بن فهيرة، الذي كان يمر بالغنم، ليمحو أثر الأقدام، ويحتلب لسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمرافق أبى بكر، الذي ضحى بتجارته وماله ومكانته. والمشرك الذي ضحى بحياته من أجل نبي لايؤمن برسالته، ولايصدق نبوته.
إذن كلهم سواء ، في الجهد والبذل والعطاء والوفاء والصدق والأمانة، ، لأن قريشا لو أمسكت بواحد منهم في تلك اللحظة، فإنها ستقطّعه إربا، ولن يعرف له أثر، وستقيم لقتله إحتفالا عظيما، بما فيهم الدليل، الذي لايؤمن بالنبي الذي يدله على الطريق، وربما يكون عقابه أشد وقعا، لأنه ساهم في مساعدة عدو، وتعاون وتجسس مع الأعداء، ضد قريش وسادتها، حسب مفهوم قريش يومها.
نجاح النهاية من صدق البداية: أُُخْرجَ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة تحت جنح الليل، وعانى مشاق الطريق، وسلك أصعب الطرق، حتى يفلت من القبض عليه أو قتله. لكنه ظلّ واثقا بربه الذي أعمى عنه أبصار الأعداء، حين أخرج من بيته، وحين وقفوا على غار الثور الذي يجلس فيه وعادوا خائبين، ولو رأوا تحت أقدامهم لرأوه. وبعد 13 سنة من سلم وحرب ومعاناة، يعود فاتحا لنفس المكان الذي أخرج منه. ويعطي الأمن والآمان، للذين حرموه من قبل، وأفزعوه وأرادوا قتله، ومنحوا الثروة لمن يأتي به حيا أو ميتا.
إن البداية هي التي تصنع النهاية، ونهاية المرء تدل على بدايته، ومن كان صادقا في بدايته، لامحالة سيكون ناجحا في نهايته.