في إحدى قصص نجيب محفوظ٬ يذهب كهل ضّيع عمره في النضال٬ أو في الأوهام٬ ليخطب امرأة تناسبه في السن. وكان الخاطب يعاني من آثار طلقة أصابته في مظاهرة قديمة. وقد نصحه صديقُمجّرب ألا يعترف لوالد العروس بأنه جرح أثناء اشتراكه في مظاهرة ضد العهد السابق. «قل لهم إنك أُصبت في شجار بملهى ليلّي٬ أيام الشباب». ذلك أن فساد الأخلاق قضية تحتمل الأخذ والرد والتوبة٬ وهي أهون وأكثر مدعاة للطمأنينة من الاشتغال بالسياسة٬ اللوثة التي لا شفاء منها. كم رجلاً في بلادنا جرحته أو قتلته رصاصة من شرطي في مظاهرة؟ يستحق هذا أن يكون سؤال المليون. مع هذا لن ننشغل بالجواب لأن الموضوع لا يخصنا٬ بل يخص النرويج. والمناسبة تحقيق صحافي منشور عن تلك المملكة٬ وهو تحقيق لطيف مدعم بالمعلومات والأرقام٬ لكنه يصيب القراء الذين على شاكلتي بالأسى٬ وربما القراء الذين على شاكلتك أيًضا. نحن لن نحزن لأن ثروة تلك البلاد من النفط والغاز يتمتع بها الشعب٬ لا الفاسدون. لكن من منا لا يتأسى حين يقرأ أن الشرطة هناك لم تطلق سوى رصاصتين خلال العام السابق. رصاصتان طائشتان لم تجرحا مواطًنا. هذا بالفعل بلد يستحق أن يوصف بأن تعداده 5 ملايين نسمة. إن صفة «نسمة» تنطبق على كل واحد منهم٬ بضمنهم شرطتهم الذين يبلغ عددهم 10 آلاف «نسمة». أرض ساحلية مستطيلة٬ تغيب عنها الشمس نصف أيام السنة فتعيش «نسماتها» في العتمة والثلوج لستة أشهر. ومع هذا لا يخرج متظاهر أو لص أو مختل عقلًيا أو عاشق يائس ليعترض شرطًيا٬ تحت جنح الظلام٬ ويدفعه لتحسس مسدسه٬ ناهيك باستخدامه. وحتى في تلك الحادثة المروعة التي تعرضت لها النرويج قبل 4 سنوات٬ يوم قتل متطرف 77 شخًصا بريًئا٬ فإن قوات الشرطة لم تطلق سوى رصاصة واحدة جرحت المعتدي٬ ولم تسلبه حياته. أتساءل: ماذا يفعل عاهل تلك البلاد؟ وكيف يقضي نهاره؟ وبأي قضية يشغل حكومته؟ أعرف أن اسمه هارالد٬ لكنني لا أحفظ لقبه ولا ملامحه٬ ولا أتذكر رسًما له. لكنه بالتأكيد لا يفرض سحنته على أبواب البيوت وأعمدة الكهرباء. هل في مملكة النرويج٬ ذات الملايين الخمسة سجن مركزي تصفر فيه ريح الشمال؟ أسأل «غوغل»٬ مختار الشاشة٬ فيجيبني بأن لديهم سجًنا يعتبر الأكثر إنسانية على وجه البسيطة. معاذ الحسد. ولولا الملامة لتمنى المرء لو يخرج على القانون في النرويج٬ لكي يجرب ذلك السجن وينعم بالدلال في زنازينه. في البلاد التي نعرف٬ يفوز الزعيم في الانتخابات بنسبة 99.99 في المائة. نكتة باتت عتيقة ومضجرة. لكن من الضروري الاستشهاد بها٬ هنا٬ لأنها تشبه تلك التي تحققها النرويج في قوائم البلاد الأكثر ديمقراطية في العالم. ففي امتحان الالتزام بالقانون واحترام حقوق الإنسان٬ تصدرت النرويج صف الناجحين المتفوقين٬ وحازت 9.8 من عشرة. عفارم. أي هفوة ارتكبت السلطة في الصفر فاصلة اثنين في المائة؟ وأي شطط يمكن أن يحدث في أرض تصاب مسدسات شرطتها بالصدأ من قلة الاستعمال؟ بلد عضو في حلف الناتو يحمل لقب الدولة الأكثر سلمية في العالم. معضلة تقلق البال وتستفز أعصاب من ينتمي إلى جمهورية لها جيوش أرضية وفضائية وميليشيات وبيشمركة وفدائيون وجبهات وقواعد ودواعش وحشود٬ الكل مسلح والرصاصة بفلس والشعب يغني: «أفّز بالليل.. نص الليل.. وأهجس نار بضلوعي». هل هناك نرويجي يفّز في الليل القطبي الطويل على صوت مطربنا محمد جواد أموري؟