لا أذهب بعيدا في الرؤى ، أو التمنيات عن الدور الروسي ، والعملية التي بدأتها موسكو  في سوريا ، بضربات جوية  – كما هي عمليات التحالف الدولي الذي تقوده امريكا ، وتعرف أنها  لا  تحسم المعركة – كما يقول ذلك  المتخصصون أيضا – إن لم تكن الارض قوية ، ولها القول الفصل في المعركة … فهل ستشارك روسيا في هذا الدور ، في وقت يرفض الرأي العام الامريكي إرسال قوات برية الى سوريا ..؟. ربما يكون ذلك ، ولكنه يتوقف على نتائج العملية ، وقد تكون الولايات المتحدة وضعت هذا الاحتمال في الحسبان في عدم اعتراضها على توسع الدور الروسي ، رغم ما يصدر من تصريحات هنا وهناك..

تحليلات وأراء كثيرة قيلت وستقال في التحرك الروسي الجديد في سوريا ،  بعضها سابق لأوانه كثيرا ، وربما تجاوز في رؤاه ( مخيلة ) الروس أنفسهم عندما ذهب  في التصور والتحليل الى انه سينشأ ( حلف بغداد ) جديد  في المنطقة ، مع اختلاف الظروف ، ودون أن يعرف أن هناك من العرب من ندم عليه اليوم ، بعد أن رفضه بالأمس لأنه ( جعل الغرب وامريكا يعتمدون على اسرائيل  ، بدل العرب ، في مواحهة  المد الشيوعي ، وخلق منها  القوة العسكرية الرئيسية المتفوقة في هذه المنطقة ، وكان يمكن لو إنضم العرب الى هذا الحلف أن يقطعوا الطريق على  حلم اسرائيل بتحقيق ما تريده وتتمناه ..)  ويكونون هم القوة الأكبر بدلها على حد ما يرى أحد المفكرين ..

لكن الامور لا تسير بالتمنيات  ،  بل بالارادات  ، وتحسب بنتائجها ..

فيما يرى أخر أن العملية الروسية تشكل  مقدمة لعودة دور الاتحاد السوفيتي السابق ، والحرب الباردة ، وما الى ذلك من توقعات تدخل ضمن هذا الاطار.. وليس في ذلك من جديد  ، إذ سبق أن طرخ مثل هذا الرأي بعد قضية أوكرانيا ، وضم القرم الى روسيا ..

وهناك من المحللين والمراقبين من نظر الى الأمر بواقعية ، ووضعه ضمن حجمه الطبيعي ، الذي لا يتعدى المصالح ، والتهديد المشترك الذي تتعرض له موسكو ، مثلما تتعرض له المنطقة اليوم من الارهاب وتخشى من إمتداده اليها ..

والأمربرمته  في النهاية لا يتعدى ( إتفاق مصالح بين واشنطن وموسكو ، ( وليس تنافسا ) ،  ويسير حسب القاعدة الأزلية ( انه متى ما اتفقت المصالح كان هناك اتفاق ، ومتى ما تضاربت كان الخلاف ) وهو رسالة  أمريكية قوية لبوتين مفادها أنها ستعمل معه اذا كان التعاون يخدم مصالح الطرفين .. وهذا ما ذهبت اليه صحيفة ( ناشينال إنتيريست؛ الأمريكية أيضا ،  خاصة وان العملية الروسية بدأت بعد لقاء الرئيس الروسي بوتين بنظيره الامريكي اوباما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للامم المتحدة مباشرة ..

والمنطق قبل المعلومات يؤكد أنه من الصعب  الذهاب مع التمنيات بعيدا ، بعودة  الدور الروسي بهذه العجالة ، أو أن تتخلى أمريكا ببساطة عن حلمها الذي حققته بأن تكون  ( القوة الاعظم ) ،  بلا منازع ، وجعلت  النظام العالمي يقوم على الانفراد والقطبية الواحدة ، ووفرت لهذا الهدف ، قوة جبارة ، تضمن الدفاع عنه ، وقد جربتها في حربين كبيرتين ،  وحروب فرعية ،  وأنفقت عليها مبالغ طائلة وتضحيات كبيرة ، ولديها الاستعداد لأن تذهب الى اقصى مدى القوة  اذا ما نازعها أحد على المنافسة ، او يريد أن يجعل القطبية ثنائبة أو اكثر  ..

 ويبدو من دراسة وتتبع حالات سابقة ، أن خطوة روسيا  كانت محسوبة ليس منها فقط ، وربما من أمريكا أيضا ، التي  قد  تعتقد أن وقوف روسيا مع الرئيس بشار الاسد سيسهل بلا شك مهمتها في الدخول في عملية تسوية للأزمة السورية مع المعارضة مستقبلا ، ولعب دور الوسيط  مع الولايات المتحدة نفسها ،  حسب تطور الاوضاع على الارض ، فقد سبق لروسيا  أن منعت الضربة الامريكية التي هدد بها الرئيس باراك اوباما ، بمبادرة تقوم على وضع مخزون سوريا من الاسلحة  الكيمياوية تحت تصرف الامم المتحدة ، وانضمامها الى اتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيمياوية ..

ووجد أوباما في  حينه ، في المبادرة الروسية بتدمير الاسلحة الكيمياوية مخرجا للتراجع عن الضربة الامريكية لسوريا تحت تلك الحجة ..

أن من السابق لأوانه أن تحكم  بخطوة واحدة ، أو خطوات محدودة على تحول موقع روسيا من ( القوة  الكبيرة ) ، كحال دول كبيرة أخرى تشارك في التحالف الدولي اليوم ، الى قوة عظمى ،  بهذه السرعة ، وتشكل ندا ونظيرا لامريكا ، وتحقق التوازن الدولي المطلوب ..

ان ما أقدمت عليه موسكو  كان بلا شك خطوة متقدمة ، تؤشر تنامي الدور الروسي الذي تتابعه  الولايات المتحدة  بدقة ، ولكنها  في الوقت نفسه خطوة محسوبة  بدقة ، ومحكومة بالمصالح المشتركة ، وضمن الجهود الدولية والمنطقة لمحاربة الارهاب الذي اصبح ظاهرة عالمية وتتطلب جهودا عالمية ايضا للقضاء عليه..

فهل كان فعلا هدف بوتين من دخول سورية هو إنقاذ الرئيس بشار الأسد ، وليس محاربة داعش كما ترى صحيفة نيويورك تايمز الامريكية ..؟.. ولماذا هذا الاصرار على الوقوف معه..؟.. وهل  يصب موقفه في  مصلحة امريكا ايضا ، وليس روسيا فقط ..؟..

اسئلة كثيرة أجاب عليها  ( باتريك بوكانان ) السياسى الأمريكى البارز ومنافس الرئيس الأمريكى الأسبق جورج بوش الأب على ترشيح الحزب الجمهورى لانتخابات الرئاسة عام 1992 في مقال انتقد فيه موقف الرئيس اوباما في سياسته تجاه الشرق الاوسط وخاصة الملف السوري ، حيث يرى ( أن إنهيار نظام بشار الاسد يعني سقوط  سوريا بيد داعش وتحولها الى قاعدة استراتيجية تدير منها حربها مع بغداد ، وتسدد ضرباتها الارهابية الى العالم ) على حد تعبيره ..

وبذلك يتفق ما أقدمت علية روسيا مع مصلحة  أمريكا ، وتكون قد ساعدت واشنطن من أن  لا تقع  مرة أخرى في سيناريو ( عراق أخر) ،  يجرها الى جدل حول ارسال قوات الى سوريا لطرد داعش منها .. وكانت سياسة موسكو في غاية الوضوح ، على العكس من سياسة واشنطن على حد ما ذهب اليه  السياسي (باتريك بوكانان ) ….

وبالتالي يخلص ( بوكنان ) الى ان تصرف بوتين في سوريا كان سليما ..

فما هي الخطوة اللاحقة بعد العملية الروسية .. ؟.. وهل ستشهد سوريا تسوية أو مبادرة ترضي جميع الاطراف ، على غرار مبادرة تدمير الاسلحة الكيمياوية السورية ..؟..

 ذلك ما تحتاجه المنطقة والعالم اليوم ، وليس سوريا فقط .. وتجيب عنه الأيام اللاحقة وتطورات الاحداث ..

{{{{{

كلام مفيد :

لا تستطيع أن تضحك ، وتكون قاسيا في وقت واحد …(جبران خليل جبران )