اغتيال ثلاثة من رجال الدين من الطائفة السنية في مدينة البصرة 545 كم جنوب بغداد والتي اعقبت زيارة رئيس الوزراء العراقي للمدينة، كانت على ما يبدو رسالة واضحة للسيد العبادي، خصوصا وإنها قد ردت بشكل مباشر على كلام الرجل مع قيادات المدينة الأمنية بضرورة مواجهة وإيقاف عمليات الاغتيال بشكل نهائي وعدم التهاون مع منفذيها في زيارته الاخيرة الى هناك.
فالمدينة التي تشهد هذه الأيام حراكا غير مسبوق بمطالبتها بإنشاء إقليم خاص بها ردا على وضعها الاقتصادي والخدمي المتردي حسب قول الداعين لهذا المشروع، كانت مسرحا لعمليات اغتيال ممنهجة لشخصيات دينية وسياسية منذ عام 2003 ولحد الان ولعل ابرز ضحايا هذا الاعمال محافظها السابق (محمد مصبح الوائلي) الذي ذهب ضحية عملية اغتيال في ايلول سبتمبر 2012، هذه العمليات بدأت تتخذ أكثر من صبغة فاغلب مرتكبيها في الأعوام التي سبقت عام 2006 اي قبل العملية العسكرية التي اطلق في حينها (صولة الفرسان) كانت تنفذ بدوافع جنائية وعشائرية وصراع مافيات لتهريب النفط والصراع على الاستيلاء على منافع المنافذ الكمركية حسب بعض احصائيات دوائر الشرطة في المحافظة، غير انها كانت بعد ذلك الوقت لتكون اقرب الى التصفيات السياسية والطائفية.
اما اليوم فهي تترجم بلغة مغايرة تماما فمعركة الفساد التي أعلنتها الحكومة العراقية الجديدة برئاسة السيد العبادي، بدت حيتانها تعي خطورة هذه الخطوة خصوصا انه يكمن في محافظة تكاد تمتلئي بمنافذ المنافع الاقتصادية المهمة سواء بإنتاج النفط او انها منفذا عراقيا مهما يكاد يكون وحيدا خصوصا في هذه الظروف لاتصال العراق بالعالم.
العملية الاخيرة على ما يبدو وحسب خبراء كانت اول رسالة حاولت تلك (الحيتان) إرسالها للسيد العبادي تضمنت ما معناه (بأننا نستطيع ان نضعك في موقف محرج او قد نضع البلاد في محرقة) بإدخالها في معركة طائفية جديدة، الحالة لم تكن غريبة الحدوث فهنالك جيش من الفاسدين يقبعون خلف مشاريع تجذرت خلال الأعوام السابقة وربما أصبحت تمتلك خطوطا سياسية ومافيات عسكرية وهي غير مستعدة لترك هذه المصالح والانسحاب عنها بعد ان بنت لها تلك المنافذ من المحافظة الغنية أرصدة لا تصدق وبناء شخصي يقارب الخيال.
الآفة التي تشبعت وانتشرت في جسد الدولة العراقية من أعلى الرأس الى أخمص القدم حاولت وعلى ما يبدو بان تتجاهل تحذيرات رئيس مجلس الوزراء العراقي بان تتوقف او قل انها لم تكن تصدق بأنه جاد بمحاربتها، الا أنها تأكدت بان الحملة قادمة لا محال وان الخناق بدا يضيق على مسالكها فقررت ان ترسل رسالة صدمة ورعب للعبادي عله يعي سعة هذه الآفة وخطورتها ومدى تمكنها من أجهزة الدولة.
الحكومة العراقية في وضعها الحالي تعيش حربا من اجل تحرير المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، وهي غير مستعدة لفتح جبهات أخرى مع أعداء جدد ومعركة مثل معركة الفاسد لا تنتهي بسنة او بأشهر بل انها قد تمتد لعمر هذه الحكومة بكاملها وهي تملك قناعة (أي الحكومة) بان شخصيات بارزة ومهمة قد يطاح بها بعد كشف الملفات المحفوظة.
الحادثة لها من الأثر الكبير والخطورة البالغة بما لا يقل عن (حزيرانية) الموصل فسقوط مدينة الأخيرة في حزيران من السنة الماضية كان وباتفاق اغلب المحللين السياسيين هو من تداعيات فساد ونخر الأجهزة الأمنية فيها، وانتشار (مافيات) تنظيم الدولة الإسلامية لسنوات والذي كان يعتاش على جمع الإتاوات من التجار وشركات الصيرفة والاتصالات، اما عمليات الاغتيال هناك فكانت تتم بشكل ممنهج حتى باتت المدينة تحت خوف مستمر، اليوم يكاد يجمع البصرة والموصل الكثير من المتشابهات ومنها عمليات الاغتيال وما سبق من المتشابهات ولم يبقى لها سوى ان تصل المدينة الى حد المواجهة النهائية مع الحكومة المركزية وهو شيء متوقع اذا ما استمرت الحكومة بفتح الملفات وخصوصا الكبيرة منها.
ولكن لماذا استهداف رجال دين سنة دون غيرهم؟
الجواب يتأتى من خلال:
1- ان استهداف رجال دين من الطائفة السنية يجعل الرسالة غير مفهومة الا لمن يقرأ مابين السطور ويظهرها كأنها ضمن العنف الطائفي.
2- محاولة لوضع الحكومة المركزية بموقف محرج من ورقة الاتفاق السياسي الذي بدأ يتجه لتنفيذ اغلب بنوده.
3- فتح اكثر من جبهة على حكومة العبادي لإشغالها او تأخيرها على اقل تقدير عن معركة كشف ملفات الفساد.
4- محاولة لإظهار القضية كحالة شد طائفي، لان فهمها بشكل عام كقضية صراع مع الفساد يعطي حكومة العبادي زخما كبيرا في تصفية منفذيها وقد يجعلها شرارة لحملة شعبية مشابهة لحالة الحشد الشعبي خصوصا بوجود تدخل مرجعي واضح باستنكار العملية.
بعض المراقبين يرون ان الرسالة القاسية التي حدثت في البصرة نهاية الاسبوع المنصرم يمكن ان تقابل برسالة اكثر شدة وبقوة غير متناهية لمنفذيها لتكون رادع وتحذير حقيقي بان مشروع الوقوف بوجه الفساد ماض، وان اي تمهل سيطيح به بلا شك، الاختبار صعب ولكن النجاح فيه ممكن للحكومة ولرئيسها الذي يملك دعما سياسيا وشعبيا ومرجعيا واسعا وعليه ان يستغل هذه الحادثة ليجعلها حملة وطنية وحشد شعبي شامل لمكافحة مافيات الفساد قبل ان تجهز على حملته الوليدة في مهدها، وبعدها فلن يكون للكلام حول المكافحة لهذه الافة اثر لا في الشارع ولا في النفوس.
مقالات اخرى للكاتب