لعله لأول مرة يحدث في عالمنا المعاصر بل و حتى في تاريخ البشرية :
أن تجري عملية إسقاط اعتى نظام ديكتاتوري شرس ودموي مثل النظام العراقي السابق ، ومن ثم يتم تُسليم السلطة إلى أشخاص و أحزاب و تنظيمات ، ليس فقط لا يؤمنون بالديمقراطية وإنما ينفرون منها نفورا شديدا ، كما الشيطان من رائحة البخور ، وإنما أنهم يعتبرون الديمقراطية ،أصلا ، بدعة غربية ومفهوما "مستوردا " لا يصلح للمسلمين قطعا و بتاتا !!!..
وضمن هذا السياق فكان من الطبيعي ، وتحصيل حاصل ، أن يتعثر المسار الديمقراطي الحقيقي في العراق ، وكذلك بناء الأسس المتينة للنظام التعددي ودولة القانون ومجتمع المنظمات المدنية و حقوق الإنسان ، لأن من لا يؤمن بالديمقراطية ويعتبرها بدعة غربية و مفهوما مستوردا ، يجب أن لا ننتظر منه الإقدام الصادق و المخلص على بناء النظام التعددي و الديمقراطي ودولة القانون و الشخصية العراقية الحرة ، فإذا كان هؤلاء يتظاهرون بقبولهم بالنظام الديمقراطي الشكلي على مضض و بامتعاض ، فأن السبب في ذلك يرجع إلى وجود القوات الأمريكية في العراق فيما مضى من الوقت والذي يدعم صحة كلامنا هذا ويسنده ، ليس فقط فشل الأحزاب الإسلامية الحاكمة أو المعارضة الإسلامية والبعثية المسلحة ، طيلة السنوات الأربع الماضية في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي و راسخ ، ومجتمع عادل ومرفه و تنمية اقتصادية و اجتماعية و ثقافية نشطة ، وإنما ما يدعمه و يسنده هو أعمال العنف و الإرهاب ، التي مارستها الأحزاب و التنظيمات و الحركات و التيارات السياسية ضد بعضها بعضا من جهة ، وضد شرائح المجتمع العراقي المتنورة من العقول العلمية وناشطي حقوق الإنسان المنظمات المدنية ، والعاملين في حقول التربية الثقافة والصحافة والإعلام من جهة أخرى ، زائدا فرض نظم و قيم متخلفة ومتهرئة وبالية على المجتمع العراقي ، ليرجعونه قهقرة نحو عصور البداوة و الجاهلية الأولى والمغلقة ، بينما نحن نعيش في عصر الفضائيات والإنترنت والأبحاث العلمية المتواصلة والمتطورة في كل المجالات والنواحي !..
الواقع أن ما حدث في غضون السنوات الأربع الماضية ، كان امتدادا لطبيعة العقلية المتخلفة والقمعية والتعسفية والإقصائية السائدة عند هذه الأحزاب التي مارست نهجها السلطوي و نفوذها الميليشاوي المسلح و نهبها المنظم وصراعها الدموي فيما بينهم ، و ضد شرائح المجتمع المختلفة في آن واحد !! ، منطلقة في حقيقة الأمر ، من أنماط قيمها الفكرية المتخلفة أو الانقلابية التي تؤمن بها ، بدلا من القيم الديمقراطية ودولة القانون و حقوق الإنسان و عدالة المساواة ومساواة العدالة !.
إذن :
ففاقد الشيء لا يعطيه !..
فلِم العجب يا أخوة رجب في شدة الخطب ؟!..
وفعلا أليس من السذاجة أن ننتظر من أشخاص و أحزاب لا يؤمنون، إلا بالفكر الثيوقراطي الديني أو الانقلابي " العلماني " ذات الاستبداد المطلق كأيديولوجية مقدسة ، وفوق ذلك ، وهم طائفيون حتى النخاع وفئويويون قمعيون حتى الضالين ، وسلطويون انفراديون حتى الممات ، أن يبنوا مجتمعا حر الإرادة و التفكير ، يؤمن بالإبداع والخلق الدنيويين ، أكثر مما يؤمن بالخرافات و الغيبيات والأوهام وبالعسكرة وروح الانقلاب ؟؟! .
ومن هنا نجد أن هذه الأحزاب و القوى لم تعمتد الفكر الديمقراطي الحق ، كقاعدة سياسية جديدة ، لتفجير طاقات الفرد العراقي و إمكانياته الإبداعية ، كمواطن حر الإرادة ، لديه الوطن فضاء واسعا ، يضم أخوة عديدين من أقوام و أعراق وملل ، و كلهم عراقيون فحسب ، وإنما جعلوا المواطن العراقي متشظيا ومتخندقا بين هذا المذهب و ذاك ، و بين هذا العرق أو تلك القومية ، وجعلوا من الوطن العراقي قواقع مغلقة ، تحت مسميات عديدة ، ليتسنى لهم الاحتفاظ بمراكزهم ونفوذهم السلطوي والسياسي ، هيمنة و احتكارا ، وإلى أطول فترة ممكنة.
لو كان هؤلاء يؤمنون بالديمقراطية الحقة ، لما لجئوا كأحزاب و تنظيمات ، إلى السلاح و أساليب التصفيات والاغتيالات فيما بينهم ، كحل وحيد لحسم الخلافات السياسية و الفكرية والمواقف السياسية المتضاربة و المختلفة ، ولا فرضوا قيمهم الكالحة وعقليتهم الانقلابية على كل مكونات المجتمع العراقي بقوة العنف والإرهاب !..
فهناك عشرات من دول ومجتمعات ـــ سواء في أوروبا الشرقية أو في أمريكا اللاتينية ـــ قد خرجت من معطف الديكتاتورية والفاشية الشرسة ، وخاضت انتخابات حرة و ديمقراطية ( ولكن بدون تأثير أو تدخلات وفتاوى أو تزوير!!) واحترمت إرادة الأغلبية بعد نتائج الانتخابات ، ولكن دون تفرض الأغلبية الفائزة أو الأقلية المعارضة السلمية قيمها و أفكارها على مجتمعها بقوة العنف و السلاح ، و لا استعانت بالسلاح لحل الخلافات السياسية العالقة فيما بينها ..
لماذا ؟؟! :
لأنها كانت أو أصبحت أحزابا ديمقراطية حقا، و أمنت بالديمقراطية كأفضل نظام سياسي جيد ومناسب .
و لأن الأحزاب الديمقراطية هي مرايا لمجتمعاتها ، وقدوة لها في السلوك و الممارسة ، فأن هذه المجتمعات هي الأخرى قبلت بالتداول السلمي للسلطة ، و رفضت حل الخلافات والنزعات السياسية و الفكرية بقوة العنف والإرهاب .
لأن تلك الأحزاب قد وضعت أساسا راسخا وثابتا للنظام السياسي الجديد القائم على التعددية البرلمانية ، وما كان ذلك ليحدث ، لو لم تؤمن هذه الأحزاب بالقيم الديمقراطية الحقة قولا و فعلا .
أما أغلب الأحزاب و التيارات و الحركات السياسية العراقية، ذات التوجهات الدينية و الطائفية ، فهي تعتبر هذه الديمقراطية بدعة غربية و مستوردة، وبالتالي فهي لا تؤمن بها قطعا أو بصيغة شكلية ، وبدلا من ذلك تطالب بإقامة نظام إسلامي في العراق ، وطبعا ليس على غرار ما هو قائم حاليا في تركيا ــ يا ريت ! ــ وإنما على غرار ما هو قائم في إيران !! ..
بينما أن هيئة العلماء المسلمين المتواطئة مع الإرهاب قي العراق ، قد تماثلت مع القاعدة الإرهابية ، سياسيا و أيديولوجيا ، وربما هي الأخرى ــ لو تصبح في موقع السلطة ـــ فإنها ستفرض نظام الطالبان الإسلامي المتشدد على المجتمع العراقي ..
من هنا ضاع الطاس يا عباس ، وأينما يلفت العراقي يجد نفسه في المتراس !!..