تكون الثقافة الأصيلة – قائمة على دعامتين. الإلهام والعقل، بالأول ندرك ما (بنبغي) وبالثاني نحقق ما (نبغي)..! وإذا أرادت الثقافة أن تعايش عصرها كان عليها أن تقسم نفسها بين علم يلتزم (الحق الموضعي) الذي لا اختيار فيه، وفن تطلق فيه الحرية الفردية لتبدع ما وسعها الإبداع، فلا يبقى علينا إلا أن نرسم الحدود (الفواصل) بين ما يخضع للقيد في مجال العلم، وما لا يخضع بنفس المعنى في مجال الفنون. علينا أن نفرق بين ما هو (علم) وما هو (رأي) أو (رؤية) في الحالة الأولى لا يتعدد الحق، فإذا أصبح حكماً علمياً معيناً، وجب أن يبطل كل حكم علمي يناقضه، كأن يصبح الحكم بأن، الأرض كروية الشكل، فلا يجوز لأحد أن (يختار) لنفسه القول بأنها مسطحة، وأما في الحالة الثانية فقد تختلف الآراء بإختلاف المواقف واختلاف الثقافات، وليس من حق موقف ثقافي معين أن يكون (حجة) على موقف ثقافي آخر، فإذا أختار أديب أو فنان في بلد أوربي شكلاً خاصاً لأدبه أو فنه، أختار أديب أو فنان غربي شكلاً آخر، فليس أحدهما (حجة) على الثاني، وهذا ينسحب على من (يحترف السياسة) وعلى (رجال الدين) حين يصدرون أحكامهم وفتاواهم..! والطريق إلى روح التسامح في حياتنا، هو أن (نميز) ما يجب وما يجوز، فلا نضع أحدهما موضع الآخر، أما فيما يخص (صاحب القلم) فأغلب الظن، وفي حالات كثيرة جداً، يسير بقلمه في هذا الاتجاه أو ذاك، تبعاً لما قدم حرم منه أو أغدق عليه من مكانه في عصره، ولعل (نابليون) لم يبعد كثيراً عن الصواب حين قال: (إن الكبرياء الجريحة- كبرياء أصحاب الفكر الذين مهدوا بأقلامهم لقيام الثورة الفرنسية، هي التي صنعت الثورة، ولو وجد هؤلاء من المكانة لأنفسهم ما كانوا يشتهون لذات أقلامهم على وجه آخر). وفي هذا الصدد نفسه يقول (ثوروا)- عقيدتي هي أن ما يحزن أصحاب القلم ليس هو عطفهم على المظلوم والمحروم، بقدر ما هو (الم شخصي يحز في نفوسهم من إهمال الناس لهم). ولو وضعوهم حيث يريدون لأنفسهم، واغدقوا عليهم العطاء لم يعد (المظلوم) في أعينهم مظلوماً، ولا (المحروم) محروماً، هذا ما نلمسه ونشاهد في الواقع الذي نعيشه فكثير من (الكتّاب) وأصحاب (القلم) تغيروا من الزاوية الحادة إلى الزاوية المنفرجة بعد تسنمهم مناصب رفيعة في الحكومة وقد تحولوا بقدرة قادر من صفوف (الجماهير) إلى المؤيد الكامل لكل ما يصدر من الجهات الحكومية بل وأصبحوا (الناطق بلسان من يمثلونهم صواباً أو خطأ) وأبواقاً صاخبة للتأثير على الأصوات المنادية بالحقيقة لمنع الناس من سماعها، وفي أحيان كثيرة يجعلون الصور المشوهة لجعلها جميلة أي يقومون بقلب الأمور حسب أهوائهم وتوجهات لمن أنعم عليهم بالمركز (المغّري) فهذه هي حال الدنيا حين تكون مغريات الحياة أقوى من المبادئ والقيم، وهذا يوصلنا إلى (إذا وجدنا فكرة في كتاب، فقبل أن نسأل: من كتب هذا الكتاب وماذا كُتب..؟ أن نسأل: لماذا كُتب ما قد كُتب..؟).
مقالات اخرى للكاتب