# عودة إلى زوجة باتا :
-----------------------
لقد "اختارت" هذه المرأة ؛ زوجة باتا ، وكذات فريدة ، أن تفعل الشر – طبعا هي "تراه" خيراً ، وهنا نتحوّل إلى الفلسفة المدوّخة – مثلما "اختارت" المرأة ؛ زوجة الأخ الأكبر ، قبلها ، أن تزني بمحارمها . وهي قرارات ليست بسيطة أبداً . لقد اختارت كلٌّ منهما طريقا أوصلهما إلى الخراب – وأقول الخراب لا الموت لأن نهاية زوجة أنبو واضحة وصريحة في الحكاية حيث قتلها ورمى جثتها للكلاب ، أمّا نهاية زوجة باتا ، فغير واضحة لأسباب سوف نناقشها في حينه - وكانتا مصرّتين بعزم على طريقيهما ، و"مسؤولتين" عن أفعالهما . والحالة بالنسبة لزوجة باتا أشد ثراء بالمعاني . فقد خلقتها الآلهة وفيها (من جوهر كلّ إله) كما يقول النص الأصلي للأسطورة ، وهذا يعني أّنّها مجبولة من روح آلهة التاسوعاء الخيّرة كلّها مع حيّز ضئيل جدّا للشر(رع الشمس، شو الهواء، تعنوت الرطوبة، جب الارض ، نوت السماء ، اوزوريس الخضرة والنهار ، إيزيس الفجر ، نفتيس الشفق ، وأخيرا ست الصحراء والفوضى والشر) . فهل كان وجود "جوهر" الأخير الذي هو جوهر شر في المرأة التي كان فيها من جوهر كل إله خيّر ، هو العامل الكامن الذي فجّر نوازع الشر والعدوان في ذاتها ؟ هذا التفجّر الذي ساعدت عليه البيئة الفرعونية الجديدة المستبدة والفاسدة ؟ هل هذا الإخراج الأسطوري هو تعبير عن موقف فلسفي من الحياة يعكس تصارع دوافع الخير والشر في داخلنا ، ودور إرادتنا معزّزة بالعوامل الخارجية في اختيار أيّ منهما ؟ من المؤكد أن هذا واحد من دروس الأسطورة ، فالأسطورة نتاج للاشعور وفي العادة تضرب حصاة اللاشعور عدة عصافير في وقت واحد .
# ناجح ينقل رأياً لا يتفق مع آرائه ! :
-------------------------------------
والغريب أن ناجح يعود لينقل لنا الرأي الدقيق لشكري محمد عياد على الصفحة 106 من كتابه ، ولكن بطريقة لا تتفق مع تحليلاته هو (أي ناجح) ، بل تتفّق مع تحليلات شكري عياد التي لا يقرّها ناجح . ولنقرأ - أولا - ما ذكره شكري من وجهة نظر هي أصلا وقفة في مسار تحليل التراجيديا اليونانية بصورة رئيسية . يقول شكري عياد :
(وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل ، المرتبط بقوى كونية أكبر من القبيلة وأوسع في معنى الإنسانية نفسه . ثم حين وُجد نظام الملكية المقدسة كان البطل هو نموذج الإنسان الذي لا فضل له في نفسه ولكن كل فضله هو اتصاله الأوثق بهذه القوى الكونية التي تحدّد حياته وموته . ولم يستطع الإنسان قط أن يخرج من هذا النطاق الذي فرضه عليه وجوده نفسه ، ككائن يعيش في جماعة ويخضع لظروف مادية خارجة عن إرادته ، ولكنه استطاع فقط – حين شعر بفرديّته – أن يعيش في صراع دائم مع هذا النطاق الاجتماعي والكوني ، ومن خلال هذا الصراع استطاع أن يحقّق كل مبتكراته ، بل استطاع أن يعدّل في هذا النطاق نفسه ، وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 140) (82) .
ولنقدّم الآن ما اقتبسه ناجح والتغيير "البسيط" الذي أحدثه فيه متوهّماً أنه بهذا سوف يجعل سياق تحليله لسلوك باتا متماسكا مع باقي أطروحاته ، وإذا به يقع في مصيدة ارتباك كبير ومشوّش يُربك استنتاجاته ويطيح بفرضيّاته . يقول ناجح ناقلا كلام شكري عياد السابق :
(وكان البطل – بايتي – نموذجا للانسان الذي يخرج في عالمه الصغير الى عالم القبيلة الممتد - ص 106) (83) .
ولاحظ أن ناجح حذف تعبير (عالم الأم) الذي هو أساسي جداً بالنسبة لتحليل شكري عياد كما سنبيّن ذلك . ولنسأل ناجح الآن بحَيْرة : أي قبيلة هذه التي خرج إليها باتا ؟
ويواصل ناجح اقتباسه بنفس المفردات إلى نهاية المقطع وهي :
(ومن هذا الصراع استطاع أن يحقق كل مبتكراته ... وإن لم يستطع أن يحطمه تحطيما تاماً - ص 107) (84) .
حذف ناجح – كما قلت – تعبير (عالم الأم) الذي يخرج منه البطل حسب تحليل شكري عياد إلى عالم القبيلة . فماذا يقصد شكري عياد ؟
لن نستطيع فهم وجهة نظر شكري عياد إلّأ إذا عدنا إلى الأسطر القليلة التي تسبق هذا المقطع ، وضمن سياقها ، والتي يقول فيها :
(ولعلنا نستطيع الآن أن نفهم جوهر التراجيديا اليونانية بعد أن وضعنا هذه التراجيديا في مكانها من تاريخ التطور الإنساني . فقد ظهر هذا الفن – حسبما نتصوره – في عهد نشوء الفردية ، وهو نفس العهد الذي ظهرت فيه بواكير الدين والعلم والفلسفة الأخلاقية ، كانت هذه كلها ثمرات لبدء شعور الإنسان الزراعي بذاته ومجتمعه وعالمه على أنها مفاهيم مستقلة ، وقبل ذلك كان "الدين العتيق" لا يعني إلّا وحدة الإنسان مع جماعته وعالمه ، وكان البطل هو نموذج الإنسان الذي يخرج من عالمه الصغير – عالم الأم – إلى عالم القبيلة الممتد في الماضي والمستقبل ... إلخ) (ص 139) (85)
فانظر ما الذي فعله اقتطاع ناجح للنص ، ليلائم وجهة نظره ، من نقل تحليل شكري عن التراجيديا اليونانية إلى أسطورة وحكاية خرافية من سياق آخر غريب عنها . فبعد أن يحلل شكري تراجيديتين يونانيتين معروفتين هما "الباكحاي" ليوربيدس و"أوديب ملكا" لسوفوكل ، اللتين يختلف في نموذجهما ، الشكل الخارجي المُستمد من ألأسطورة الجماعية وفي حياته الداخلية التي تبعثها الثورة الإنسانية على هذا الشكل ، وفي الدافع النفسي الذي يسيّر البطل في ثورته واصطدامه بالشكل الخارجي . وبعد أن يفصّل تمظهرات الشكل الخارجي (الملك المقتول) ، والحياة الداخلية (الملك المقتول هو الذي يبحث عن أصل البلاء الذي حل بمملكته ويلح في ذلك وهو أصل البلاء) ، والدافع النفسي (السبب الذي يوقع البطل في الصراع مع القوة الخارجية) ، يوصلنا شكري إلى الإستنتاج الذي يتسق مع مسار تحليله ومصير بطله وطبيعة ماساته ، ولا يتفق – أبداً - مع مسار تحليل ناجح ومصير بطله باتا :
(إن أساس الدوافع – عقدة أوديب في هذه الحالة - هو حبّ الذات ، الذي ينتهي بجعلها مركزاً للكون . فالملك أوديب في اتهاماته العنيفة لتيزياس وكريون يكشف عن حبٍ لذاته ليس الإلتصاق بالأم (والزواج منها) إلّأ مظهرا حادا له. والنهاية الفاجعة لأوديب ، وهي نفيه ثم موته ، معناها انتصار القوى الخارجية ثم تصالح البطل معها ، وهذا يقابل من الناحية النفسية ، تركّز الليبيدو حوله بالذات ، ثم اتجاهه إلى الكون ثم فناءه فيه - ص 144 و145) (86) .
وواضح أنّ نهاية أسطورة باتا ومصيره مختلفة تماما عن نهاية التراجيديات اليونانية التي يتحدّث عنها شكري عياد كما سنرى قريبا ، مثلما تختلف طبيعة المرحلتين التاريخيتين والبنيتين الإجتماعيتين اللتين أوجدتهما .
# التناص الحيّ ؛ تحليل مشابه لتحليل شكري عياد عند "برونو بتلهايم" :
----------------------------------------------------------------------
وقد وجدتُ تحليلا لحكاية الأخوين مطابقا لتحليل شكري عياد وذلك في كتاب "التحليل النفسي للحكايات الشعبية" لبرونو بتلهايم (ترجمة طلال حرب – صادر عن دار المروج في بيروت عام 1985) (والكتاب تمّ تأليفه في عام 1976 ). يقول برونو بتلهايم :
(القصص التي تركّز على مسألة "الأخوين" تضيف إلى الحوار الداخلي بين الهو والأنا والأنا الأعلى تفرّعات أخرى : الميل إلى الإستقلال وتأكيد الذات وعكسها ، الميل إلى البقاء بطمأنينة في المنزل العائلي بالقرب من الوالدين ... في أغلب الحكايات التي تركز على هذه المسألة : الأخ المغامر الذي يغادر المنزل (وقد يطرده أخوه منه) هو الذي يتعرض لأخطار مميتة .. هذه الحكايات يبدو أنها تقول لنا :
إذا لم ننشر أجنحتنا كي نترك العش ، لا نحطم الروابط الأوديبية التي حينئذ تدمرنا . الحكاية المصرية القديمة تنمو انطلاقا من موضوع أساسي هو الطبيعة المدمرة في الروابط الأوديبية والتنافس الأخوي أي من الحاجة إلى الانفصال عن منزل الطفولة وتأسيس حياة مستقلة . حتى ينتهي كل شيء بشكل حسن ، يجب على الأخوين أن يتحررا من الغيرة (الأوديبية والأخوية) وأن يسند كل منهما الآخر ... تؤكّد الحكاية بوضوح أن الشاب [= باتا] ليس لديه أفضل من مغادرة المنزل العائلي في تلك الفترة من حياته كي يحمي نفسه من المشاكل الأوديبية ... بهذا الشكل ، الحكاية أساسا مخصصة للتحذير : إنها تنبئنا أن علينا أن نتحرر من روابطنا الأوديبية وأن نعلم أن الطريقة المثلى لتحقيق ذلك هي أن نتدبر حياة مستقلة بعيدا عن المنزل العائلي . منافسة الأخوين هي أيضا معروضة في هذه الحكاية كمحرك قوي . ردّة فعل الأخ الأكبر الأولى هي أن يقتل أخاه بسبب الغيرة . الجزء الأفضل من طبيعته يقاوم غرائزه السفلى وينتهي به إلى التغلّب عليها - ص 126 و127) (87) .
وإذا لم يكن الكاتبان يمتحان من مصدر واحد – وهذا هو الإحتمال الأكبر - ، ولأن كتاب شكري عياد لم يُترجم إلى الألمانية مثلا لنقول – وهو الأسبق – أن برونو بتلهايم هو الذي اقتبس منه أو سطا عليه ، فإن الأمر يكون هنا "تناصّاً" أصيلاً . وهذا هو معنى التناص العلمي الحيّ . \
مقالات اخرى للكاتب