مرة كنت أقود سيارة تحمل لوحات تسجيل ( ارقام ) التعليم العالي وكنت ارتدي في حينها زيا يوحي بأنني لست سائقا ، وأثناء استدارتي في إحدى الساحات الرئيسية في بغداد تضايق سائق إحدى سيارات الأجرة ورغم إن سيارته لم تصاب بأي أي ضرر ولم ارتكب في حينها مخالفة مرورية ، إلا إن الأخ السائق جاء من خلفي بسرعة فائقة ليكلمني من خلال زجاج النافذة قائلا لي بالحرف الواحد ( إذا أنت تعليم عالي وهكذا تسير في الشارع فبماذا نعتب على سيارة تحمل لوحة تسجيل محو الأمية ) ، وقد ذكرتني تلك الحادثة التي ابتسم لها كلما تذكرتها ، بكتاب رسمي نشرته شبكات التواصل الاجتماعي يحمل العدد 3432 في 31/ 1 / 2017 وهو موجه من قسم الشؤون المالية في جامعة بغداد إلى الدائرة المالية بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، وفحواه إن جامعة بغداد تعاني من عجز مالي مقداره 40,393 مليار دينار ضمن تخصيصات عام 2017 بسبب خطا في الاحتساب بضوء المصروف الفعلي للسنة المالية 2015 مما سيتسبب في تخفيض النفقات وحدوث عجز بنسب متفاوتة ، وشكلت أعلى نسبة في التخفيض بحسابات ( الخدمة الجامعية ، الشهادة ، الرواتب ) حيث بلغت 15% ، ومن شان ذلك تخفيض السيولة النقدية الممولة من وزارة المالية كما سيؤدي التخفيض إلى تأجيل العلاوات والترفيعات ومخصصات ( الإعالة ، الزوجية ، الأولاد ، الموقع الجغرافي ) واحتمال تأجيل مصروفات أخرى ولحين توفر سيولتها ، ويختتم الكتاب بعبارة ( ولغرض معالجة الموضوع سيتم التمويل والصرف لرواتب منتسبي الجامعة على أساس السيولة المتاحة والتي تمول من وزارة المالية ويشكل ربما يؤدي إلى إيقاف صرف الرواتب في الفصل الرابع من السنة المالية الحالية ) ، والسؤال الذي يطرح هنا إذا كانت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي التي تضم أعلى الكوادر المالية والحسابية والمسؤولة عن تخريج طلبتها في مراحل الدراسات الأولية والعليا بهذه الاختصاصات فما هو الحال في وزارات ودوائر أخرى التي ربما لديها عددا محدودا من ذوي الاختصاص كدائرة محو الأمية كما يعتقد سائق سيارة الأجرة الذي اشرنا إليه قي بداية الحديث ؟! .
الغريب في الموضوع ، بان يتم التداول والتعليق عليه بشكل واسع في وسائل التواصل الاجتماعي منذ أيام والبعض بات يعتقد إن رواتب أساتذة الجامعات خفضت فعلا ، ورغم ذلك فإننا لا نعرف بحقيقة ما يتعلق به من حيث صحته أو فبركته لان الجهات المعتية في جامعة بغداد أ دوائر وزارة التعليم العالي لم تعلق على الموضوع حتى ساعة كتابة هذه الكلمات ، ولم نجد ردا في الصفحات الرسمية للجهتين ، وهذا دعا للتساؤل هل إن الخطأ يخص تخصيصات منتسبي جامعة بغداد فحسب أم انه تسرب إلى الجامعات الحكومية الأخرى ، لأنه من الصعوبة حصول خطأ في إدراج تخصيصات بمقدار 40 مليار دينار تخص أساتذة الجامعات كما انه من الصعب تصحيح مثل هذه الأخطاء لمحدودية إيرادات الموازنة الاتحادية من جهة ونفاذ قانون الموازنة الاتحادية لعام 2017 بعد نشرها في جريدة الوقائع العراقية ، ومن تداعيات ذلك إن البعض راح يفسر الأمور على هواه ليقول إن الفصل الرابع ( رواتب ثلاثة أشهرالاخيرة من السنة ) سيتم إيقافها أو حجبها من قبل وزارة التعليم العالي استجابة لدعوات سابقة لعدم صرف رواتب ومخصصات العطلة الصيفية ، وهناك تعليقات وتفسيرات أخرى ربما يخرج بعضها عن المألوف لأنها تصور الموضوع وكأنه أمر واقع ولا يمكن معالجته سيما وان النسبة 15% تتوافق مع بعض الدعوات السابقة لفرض ضرائب على بعض الرواتب ومنهم أساتذة الجامعات الذين تزيد رواتبهم عن مقدار معين لتصل إلى هذه النسبة بالذات ، وهناك من يشير إلى وجود توجهات لتقليل مدخولات التدريسيين إذ إن بعضها دخل حيز التطبيق من خلال مجموعات إجراءات ومنها ، تخفيض أجور المحاضرات في الدراسات المسائية وتخفيض أجور المحاضرات العملية والتطبيقية إلى النصف وتأجيل دفع أجور المحاضرات الإضافية الصباحية لغير الخارجيين إلى ما بعد انتهاء الأزمة المالية وعدم صرف أجور الإشراف والمناقشات وتقويم وتعضيد البحوث وغيرها من الاجراات التقشفية التي قللت العديد من المدخولات وأدت إلى تخفيض القدرات الشرائية والبعض يردد إن السنوات ما بعد 2008 لم تشهد أية زيادات في رواتب الجامعيين رغم ارتفاع نسب التضخم سنويا الأمر الذي يشجع على الهجرة للخارج تحت مسوغ البحث عن وسائل المعيشة في وقت ستزداد فيه الحاجة للكفاءات بعد التحرير .
وبعض ما يتم طرحه يخلط ما بين القرارات التي تتخذها الوزارة وتلك التي تتخذها الجامعات من خلال الصلاحيات التي تتيحها التشريعات النافذة والتي خولت الجهات المعنية في الجامعات باتخاذ قرارات لتطوير إمكانياتها ومعالجة الاختناقات ، فبعض الجامعات لم تعمل بالعطلة الربيعية للعام الدراسي الحالي وأصدرت توجيهات بمنح التدريسيين والطلبة إجازة لأسبوع واحد من الرصيد المتراكم من الإجازات وليس بشكل مجاني ، كما إن توزيع أجور الدراسات المسائية خفضت بمقترحات وقرارات اللجان المشكلة في الجامعات وان الوزارة في بعض الاحيات لا تتدخل بما يتقاطع مع استقلالية الجامعات ، ومما لاشك فيه إن هذا الخلط سببه عدم إيضاح بعض الأمور المهمة مما يتطلب توضيحات لمنع تفاقم الأمور، فقطاع التعليم العالي والبحث العلمي غاية في الحساسية إذ يفترض أن توفر له البيئة الملائمة ليكون أساس الإبداع ونقطة الانطلاق نحو ولوج احدث وانسب المعارف والعلوم والتطبيقات ، والطلبة في هذا القطاع هم من شريحة الشباب الذين يعول عليهم في إحداث التنمية والتطور بمختلف المجالات باعتبار إن الجامعات هي مصانع لإخراج طاقاتهم الخلاقة ، ولا يعني تمتع الجامعة بصلاحياتها إنها تعمل بمعزل عن الوزارة وإنما الغرض هو ترك هامش للمبادرات لكي لا تكون عبارة عن دوائر رسمية تنفذ التعليمات ، فالجامعات يفترض أن تعمل على وفق فلسفة واستراتيجيات وان تستثمر إمكانياتها لتتحول إلى جامعة منتجة لتوفير مصادر لتمويل التطور المنشود وتوفير موارد لتحفيز منتسبيها ، ويعتقد الكثير بان إخضاع الملاكات العاملة في الجامعات إلى إجراءات تقشفية أكثر من المألوف تجعلهم في حالة فقر وعوز يؤدي الى أضرار بالمصالح الوطنية لان الشعور بالظلم وعدم العدالة يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإحباط وربما يؤثر ذلك سلبا على الأداء والإبداع ، وبخصوص قضية تخفيض الرواتب التي اشرنا إليها فإنها بحاجة لتوضيح من الجهات المعنية قبل أن تتحول إلى رأي وموقف تتبعه ردود أفعال ، ولدينا الثقة بان معالي وزير التعليم العالي حريص على توفير سبل الاطمئنان لدى أساتذة الجامعات وقد وعد بتطبيق ذلك في أولى لحظات استيزاره ، وهو اليوم قادر للرد على ما يتردد وتصحيح الخطافي التخصيصات ( إن كان موجود فعلا ) سيما وانه مكلف حاليا بإدارة وزارة المالية وكالة .
مقالات اخرى للكاتب