إن الذاكرة التاريخية والامتداد التاريخي يعطيان انطباعاً عن الواقع واحتمالات كبيرة جداً للمستقبل، وأن أمة من الأمم راكمت نجاحات عبر تاريخها وحصلت لها كبوة معينة أو ضعف معين، الصورة الذهنية لهذه الأمة أن تعود إلى سابق عهدها عالية جداً، بينما أمة ليس لها حضارة إطلاقاً ليس لها إنجازات في السابق توقعاتنا أقل لهذه الأمة بأن تضيف شيئاً للمستقبل.
فالتاريخ بشكل عام يعطي تصوراً وتوقعات في الحاضر ويعطي إمكانية لتصور المستقبل بدرجة من الدرجات؛ لكن هذا ليس فقط المجال الوحيد في التاريخ، التاريخ أيضاً له تأثير كبير جداً في قضية التنشئة الاجتماعية، اليوم نحن نتكلم عن التنشئة الوطنية والتربية السياسية من أين تأتي فكرة التنشئة الوطنية؟ تأتي من حكاية تاريخ الوطن، فنحن نروي لأبناء هذه الأمة أو الوطن ماذا أنجز آباؤهم؟ ماذا أنجز الأقدمون؟ ما الذي يفعله ذلك فيهم، نحن نورثهم الموضوع الاجتماعي الذي ورثته أمّتهم، والأمر الآخر نخلق لهم تصوراً وانطباعاً بأنهم ليسوا سقطاً من المتاع، وليسوا شيئاً مهملاً، سيعرفون ما تم من إنجازات في ماضيهم، ومن الممكن أن ينجزوا في المستقبل.
نعمل لهم هوية وولاء للمنطقة التي يعيشون فيها وانتماء لهذه الأمة والتاريخ، وإذا نظرنا في جزئيات التاريخ ليس فقط المتعلق بهاتين القضيتين، وإنما المهم أيضاً في تكوين الذاكرة التاريخية والهوية والانتماء لهذا التاريخ.
هناك مسائل كبيرة جداً في التاريخ، منها قضية بقاء المجتمعات، بمعنى إذا أردنا أن نتكلم عن قضية التاريخ بشكل موضوعي فإن "القرآن الكريم" يكلمنا عن قضية مهمة جداً، قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)، ويحدثنا كذلك: "وإنه لذكر لك ولقومك" ماذا تعني قضية لأولي الألباب؟ تعني أن هناك أحداثاً تاريخية ممكن الاستفادة منها في الحاضر والمستقبل، هنا تأتي العبرة، نأخذ قانوناً عاماً في لحظة سقوط أو لحظة ضعف أو لحظة انكسار كانت الأمة فيها سيئة؛ فنذكر أن لو ارتكبنا نفس الأخطاء أو نفس الأزمات سننتج نفس النتائج، فالمستقبل سيعالج بطريقة أخرى مختلفة.
عندما ندرس التاريخ ونهتم به، نستطيع أن نعزز عند الإنسان قدرته العقلية في الاستنتاج والبحث وفي النقد للتاريخ ونعزز انطباعاته عن ذاته في الواقع وممكناته في المستقبل هذه هي قوة التاريخ وجذوره.
التاريخ فيه السياسة والاقتصاد والاجتماع وفيه أيضاً الذاكرة العلمية المعرفية للبشرية التي تضافرت عبر العصور، عندما تأتي أمة من الأمم وتريد أن تعرف تاريخها وانتصاراتها العسكرية والأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والنسيج البشري كيف تكوّن، فيجب على كل أمة أن تعود إلى هذا الوعاء الكبير الذي تم فيه التفاعلات البشرية، وأيضاً إذا أرادت أن تعرف علاقتها بالأمم الأخرى ستكون مضطرة للعودة إلى التاريخ، ما الذي حدث تاريخياً بينها وبين الأمم الأخرى.
إذاً فالتاريخ عندما تنظر إليه المجتمعات ليس تاريخاً ساكناً، بمعنى أنه حدث ومضى، إنما هو حاضر نعيشه؛ لأن الحاضر هو امتداد لهذا الماضي، وهو المستقبل الذي سنعيشه؛ لأننا سنخطط بناءً على هذه الذاكرة التاريخية، التاريخ هو جزء من أي شخصية، بل مكون أساسي، التاريخ مهم في التنشئة الوطنية في قضية الصراعات وصناعة المستقبل والتخطيط له، إذاً فالتاريخ مهم جداً لهذه الزوايا الثلاث.
التنشئة المجتمعية تأتي من دراسة الكتب التي ندرسها عن تاريخنا، وهذه الكتب تحدثنا عن كيفية بناء الشخصية، من خلال دراسة كتب التربية والاجتماع والتاريخ وأيضاً العلوم الشرعية، والهدف من هذا التكوين هناك مجموعة رسائل بأن هذه المجتمعات مجتمعات تستحق الحياة، كان لها تاريخ، كان لها ماضٍ عزيز وكريم، وأن أبناءها يستحقون مكانة أفضل مما هم عليه، وعليهم أن يعملوا في المستقبل من أجل تعزيز هذه المكانة، هذا البعث النفسي التي تحاول هذه الدروس والكتب والدراسات أن تقوم به.
التاريخ له دور كبير جداً، فهناك التاريخ الكبير والتاريخ الصغير، التاريخ الكبير هو تاريخ الانتصارات والفتوحات العلمية وتاريخ مشاركة الأمة في الحضارة البشرية، هذه المعاني الكبيرة عندما يأخذها أي شخص ويتشربها يصبح عنده نزوع طبيعي لحب الأمة والهوية، فالمجتمعات تحاول أن تصنع وعياً إيجابياً وتعمق الإحساس بالذات، فشعور المجتمع بذاته عنصر أساسي من أجل تكوين المستقبل، نحن أمة لها من الذاكرة التاريخية الكثير، فإذا استعنا بالجانب الإيجابي من التاريخ العربي والإسلامي لبعث النفسية، وليس لإخماد جذوة الفعل للمستقبل، إذا أحسنا التعامل مع التاريخ، نستطيع أن نعمل نفسية بشرية جبارة وشرعية، وهما قضيتان أساسيتان؛ عندما يحس أي إنسان بأنه متجذر في الأرض، وأنه صاحب عطاء تاريخي قدرته على الفعل والاستنهاض، غير الإنسان الذي يحس أنه مهزوم تاريخياً.
إذاً فصناعة المستقبل معتمدة على أمة حية تشعر بذاتها، فصناعة النفسية تساعد كثيراً في فاعلية الإنسان، أستطيع أن أقول إن أي أمة بلا تاريخ هي بلا مستقبل، وإن الماضي والحاضر والمستقبل خط واحد متصل.
مقالات اخرى للكاتب