كان ماركس يخبئ في لحيته الطويلة حزن مليار جائع ، وكان يراسل معارفه وأصدقاءه بعبارات مختزله ، فما يشغله هو حال العباد لهذا فقد كان يرى في فسحة الحديقة قراءة لتحويل الورد جيشا لصالح الفقراء ، وكان يضع تحت وسادته كتاب جمهورية أفلاطون في مقولة منه : نقرا أفلاطون جيدا كي لانقع في الخطأ ثانية .
لكن حذر ماركس وتوقعاته بأن العالم لابد أن ينتهي في الآخر إلى شيوع فكرة المساواة والعدالة وجمهورية الكادحين لم يشهد له تطبيقاً دائماً وثابتاً لبقعة ما نتخذها أنموذجاً دائما للحلم الماركسي . وربما تصور الآخرون إن قيام الثورة الروسية في 1917 ، وقيام الاتحاد السوفيتي هي بداية للأممية الكونية لهذا الحلم ، لكن السوفيت عاشوا مخاضات تاريخية صعبة في صناعة البنية الاشتراكية للمجتمعات الشعوبية التي شملتها المساحة السوفيتية ، وكان ينظر الى انتصار السوفيت على النازية خروجا من اصعب الاختبارات للمد الاشتراكي ،لكن الحرب الباردة أبقت الشد والارتخاء قائما بين النظام الاشتراكي والنظام الرأسمالي الذي تجسد معظمه في الولايات المتحدة الأمريكية ، وانتقل صراع الكتلتين إلى سوح مضطربة ، مال بعضها لهذا والآخر لذاك ، وبين الانتصار والهزيمة عاش القرن تجاذب القوتين ، فانتصرت الاشتراكية بقيم المقاومة والبحث عن الحرية في فيتنام ولاوس وكوبا ، لكنها انتكست في أفغانستان والعراق ..لتأتي طلقة الرحمة المحسوبة سلفا بدهاء إمبريالي عندما أطلق غورباتشوف نظرية البيروستروكيا التي تعني إعادة البناء ،ولكنها كانت في حقيقتها هدم لما كان لينين يتمناه ،دولة سعادة الفقراء وصانعي مساحات الصحراء الشاسعة بحقول القمح والبطاطا والشوفان.
مع انهيار الدولة السوفتية والعالم الاشتراكي كتب ليخ فاليسا ( المنشق البولوني ورئيس نقابة التضامن ) يقول : كان الزمن السوفيتي متعباً وشاقاً ، ولكنه ساوى في أحلام العمال والكادحين وأبقانا نشوي الذرة فقط ، ولا نأكل لحم البقر إلا في عيد الفصح )
وأظن أن فاليسا لو يراجع نفسه الآن لأكتشف الكثير من أخطاء مقولته ، فالعولمة التي تأثرت فيها طروحات غورباتشوف لم تصنع في النهاية سوى المزيد من الانهيار والفقر ، فوجبة الماكدونالد وسجائر المارليبورو والهاتف النقال والكمبيوتر الشخصي لم يكن ليوحد البطون الجائعة في حديقة الورد التي أثر ماركس أن يدفنَ فيها احتراما لملاذ الفقراء وتفاؤلهم بهذا النبات الرقيق ، بل خلق تناقضات اجتماعية وتفاوت كبير وعوز اجتماعي وأزمات مالية خانقة.
الآن وقد دخلنا في دوامة ما يحدث ، في عصر يسير بسرعة الضوء صوب المتغيرات التي قد لا يسيطر عليها من قبل المجلدات الضخمة التي حملت تراث توأمي الاشتراكية ( ماركس ، وأنجلز ) فالأمر في صورته الجديدة يحتاج إلى مراجعات فكرية وروحية تساير الوعي وتكون قادرة على صناعة رد الفعل المناسب ، ومنها ما هو قائم على إنشاء رؤى جديدة تقرأ المنجز وفق الرؤية المستحدثة وتعيد بناء الأفكار بما يناسب البناء المجتمعي والثقافة البشرية الجديدة التي ربما بدأت تغادر مثالية الكتاب المجلد إلى ثقافة الحاسوب والانترنيت وما سيأتي فيه غيب المكتشفات الحديثة ، واعتقد أن التراث الماركسي بقراءة روحية جديدة سيظهر لنا الكثير من الخبايا الجديدة حتى على المستوى الصوفي والبارسكولجي والاقتصادي ،وهذا يحتاج إلى تكوين كتلة معرفية جديدة تضم علماء ومفكرين والفنانين وكتاب السيرة التاريخية.
مقالات اخرى للكاتب