في زمن العولمة والحداثة والنضج الفكريّ والعصرنة، يبرز السؤال المحيّر: هل من قراءة معاصرة ممكنة لمفاهيم الإسلام المتشدّد والمتصاعد بوتائر مرعبة كخلايا السرطان القاتل منذ الثمانينات؟
الجزء الأول:
سرطان داعش واجب الرفض والنبذ
كتب بطريرك الكنيسة الكلدانية لويس ساكو، مقالةً في موقع البطريركية يوم السبت الموافق 27 آب 2016 بعنوان: " آن الأوان لكي يوقَف سرطان داعش وأشباهها". ولما للأفكار القيّمة والعقلانية التي أوردها، بسبب "مفاجأة العالم بما قامت وتقوم به داعش وأشباهُها من أفعال شنيعة، ومن ضرب للحريات باسم الإسلام، مثل تهجير وقتل المدنيين أو حرقهم أحياء وسبي النساء وهدم المعالم الدينية والحضارية وتشويه للعلاقات بين أبناء البلد الواحد". وها نحن نذكّرُ بتساؤله إزاء كلّ هذا: "أما آن الأوان لكي يتبادر المسلمون في العالم والغالبية منهم معتدلون ويريدون الخير، وغيرُ المسلمين من ذوي الإرادة الطيبة للخروج بموقف واضح ومحدد للتعامل بجديّة وليس بسطحية، مع موضوع التطرف والإرهاب الذي يشكل خطراً على الكل، وأن يشكلوا جبهة موحدة لمواجهة الانغلاق والتطرف والكراهية ووقف هذا السرطان الرافض للعيش المشترك والمواطنة والحداثة؟".
إننا نرى في مثل هذه الكلمات المعبّرة المليئة بالرجاء والوطنية الصادقة، ذاتَ الرغبة والأمنية المستنيرة لدى المعتدلين من رجال الدّين والمتديّنين من العامّة والمثقفين وأصحاب الأقلام الوطنية التي تضع المعيار الإنسانيّ والوطنيّ فوق أية اعتبارات فرعية، ب"إعطاء ما لله لله وما للإنسان خليقة الله الجميلة من مكانة يرضاها له هذا الإله الحقيقيّ محب البشر". هي بدون شكّ، بمثابة دعوة وطنية وإنسانية من رجل دين مسيحيّ وطنيّ عراقيّ منفتح على الأديان، دفعته الكاريزما التي يتحلّى بها، كي يوقظ الضمير الإنسانيّ لمَن غفى ضميرُه وسايرَ ترّهاتِ الزمن الغادر وضلالاته، ومَن تاه في دياميس وخرافات شيوخ الفتنة والقتل والتحريض والتخلّف التي تكفّر وترفض وتنبذ كلّ فكرٍ مخالف لا يتجانسُ مع ما تعتقد وتتشدّد به هذه الفئات الضالّة في الإيغال بالتنكر لكّل ما هو معاصر وعقلانيّ ومتزن ومعقول ومنفتح ومفيد، يخدم البشرية ويجعل العالم أكثر أمانًا واستقرارًا وسلامًا وتحابًا. فغولُ العصر، وكلّ مَن سار على شاكلة فكرهم الأصوليّ المتزمّت المتشدّد حتى النخاع، تمويلاً وتخطيطًا وتشجيعًا وخوفًا ومسايرةً ومجاملةً، يعتقدون، وبئسَ ما يعتقدون، "أنَّ الجنة تُضْمَن بقتل الأبرياء بحزام ناسف أو عربة مفخخة، أو عبوة، أو بسكين"! "هذا دمار فكري"، به يتمّ غسل أدمغة بشر أبرياء خلقهم الله ليعيشوا ويتنعموا وينموا ويكثروا وفق إرادته الطيبة ويقدسوا الحياة، لا لكي يقتلوها ويدمروها باسمه باستغلال أفكار خاطئة للترويج لمعتقدات خاطئة.
إزاء هذه الآفة، التي تفتك بالبشرية جمعاء، وتسيء إلى الإسلام والمسلمين عامة قبل أيّ شيء، وتهدّد وجودَه وكيانَه ومستقبلَه من حيث يدرون أو لا يدرون ومن دون أن يعي أصحابُ "الفكر المنحرف" فيه للنتائج المترتبة على اتّباع هذا المنهج المتشدّد الغائص في ظلمات زمن البداوة والصحراء والسيف والتخلّف واستباحة الحرمات بأشكال وحجج وتأويلات غريبة عجيبة، لا بدّ من وقفة صريحة شجاعة ورافضة لمثل هذا السلوك غير الحضاريّ الذي يقوّض إرادة الإله الخالق الحقيقي الذي خصَّ الإنسانَ والبشرية باستغلال الأرض وما فيها وما عليها من أجل رفاهتِه وراحته وتفاعلِه مع جميع البشر بذات المحبة التي أحبه بها هذا الإله. وهذا يستدعي أساسًا، إرادة صلدة صارخة ترفض مثل هذا الفكر المخالف لروحية الدّين الذي يأمر بالرحمة والتسامح والمحبة، لو عادوا به في قراءة روحية معمّقة بالأخذ بروحية النصّ القرآني ودلالاتِه، وليسَ التشبّث بتلابيب حرفيّتِه التي شابها الكثير من التلاعب والتغيير والتبديل، بحسب مؤرخين وخبراء ودارسين وباحثين في الشأن الإسلاميّ. ف"الحرف قد يقتل، فيما الروحُ يحيي ويجدّد وجه الأرض". وحسب علمنا، حتى الأحاديث وما ورد في السنّة، لم تنجُ من تدخلات ومزيدات وإضافات بهواجس طائفية وأهداف سياسية. وقد اشار إلى هذه الواقعة، الدكتور رفعت السعيد، وهو واحد من أبرز المهتمّين بالشؤون الإسلامية، في سلسلة مقالاته التي خصّ بها جريدة المدى، تحت عنوان" قراءة جديدة في تاريخ قديم". وهو يرى مثل غيره أنّه، "مع تجدد الأزمان وتغير الأعراف ونضج العقول، يجوز بالطبع للمسلم أن يعمل عقله وفق ما استجد من أعراف ومعلومات في تدقيق الأحاديث والاختيار من بينها خاصة مع تضارب الرواة بل وتضارب ما ينسب إلى الراوي الواحد في الموضوع الواحد". وبحسب الدارقطني، كما ينقل السعيد: "لم يُجمع الحديث إلا في عهد المأمون وبعد أن أصبح الحديث الصحيح في الحديث الكاذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود". وبعد أن فشت بدعة ابتداع الأحاديث واستخدام الأحاديث المصطنعة في الصراعات السياسية، كتلك الأحاديث التي وضعها معاوية كلما أراد أن يبرر فعلة من أفعاله التي لا يرضاها الإسلام. (انتهى الاقتباس).
إنّ ما يُسمع على رؤوس الأشهاد من خطب دينية تحريضية إقصائية تكفيرية بين الحين والآخر ضدّ مختلفين في الدين والرؤية، وما يُنشر من فتاوى بذات المنهجية السلبية من قبل أطراف تزيد من تعميق الانحراف لدى نفرٍ لا يرى أمامه غير الدائرة المغلقة في الفكر والفعل والتنفيذ، يُعدّ كارثة إنسانية لا يمكن أن تتساهل معها البشرية المجروحة إزاء الأعراف والقوانين والنظم الأخلاقية والإنسانية المعروفة. فالبشر جميعًا، خُلقوا ليتعايشوا ويتكاتفوا وينموا ويكثروا ويملؤوا الأرض سلامًا وبهجة ومحبة، وليس كي يحيلوها سواقي من دماءٍ ليسَ لنزيفها توقف ولا رحمة، بسبب البضاعة الفاسدة التي يروّج لها أصحاب الأفكار الأصولية المنغلقة. فاللهُ كما نعلم، خلقَ البشر متساوين وأجازَ لهم حرية العقيدة والتفكير والإيمان الذي يكفل وصولَهم إلى سواء السبيل، كلّ على طريقته ومنهجه. ومن ثمّ، ليسَ من حقّ هذا النفر المنحرف أن يحكمَ على المختلف معه، بالكفر وإنزال ما لم يجزه الله الخالق من قتل وسبي واندثار وإقصاءٍ. فهذه إنْ هي إلاّ شريعة الغاب، مثيرة للاشمئزاز، لكون هذه الفئة الضالّة تريد العودة بالبشرية قرونًا للوراء نحو زمن التخلّف وركوب الدواب وسبي الحرائر ونكاح المحارم وسيادة الأعراف العشائرية والقبلية وسنن الغاب بدلاً عن سيادة القانون وعيش أركان العصرنة التي تتطلبُها الظروف المتمدنة والمتطورة للبشر والأرض على السواء. وتتحمّل اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ومَن في صفّها، وهي مصدر الشرّ والكراهية والبغضاء فيما يجري، تتحمّلُ هذه الهيئة نتائجَ كلّ ما يصدر من فتاوى ضدَّ كلِّ ما ليسَ مسلمًا. وإنّ المضيّ في هذه الطريق الوعرة، يسيء اليوم للإسلام والمسلمين أكثر من ذي قبل. ولعلَّ من نماذج فتاواها، تلك المرقمة 21413 التي تقضي بأن "كلَّ دينٍ غيرِ دين الإسلام فهو كفر وضلال، وكل مكان يعدّ للعبادة على غير دين الإسلام فهو بيت كفر وضلال"، وأنَّ "شريعة الإسلام خاتمة الشرائع، عامة للثقلين الجن والإنس وناسخة لما قبلها".
لقد سبق الإسلام دياناتٌ كثيرة، بعضُها بادت وأخرى تواصلت. وعندما قدمَ الإسلام كانت هناك ديانتان أساسيتان ومهمتان في المنطقة، اليهودية والمسيحية، وقد ولدتا من رحم الشرق. وبالتالي، فأتباع هاتين الديانتين، أي اليهود والمسيحيون هم أصحاب الأرض الأصلاء، ولا يمكن استثناؤُهما أو إخراجُهما بخطابٍ منحرف عن سياق الحياة الطبيعية لأهل المنطقة. فقدوم دينٍ جديد ليسَ مدعاةً لنفي وطمسِ معالم غيرِه. فهذه سننُ شريعة الغاب، التي لا يمكن أن تستوي في عصر النهضة والتطور والحداثة والتفاعل المجتمعي الذي يستمتع اليوم بنتائج تقدّم التكنلوجيا وابتكاراتها التي لا تتوقف وتنامي الفلسفات المحدّثة وتطوّر البشر وتقنياتُهم في شتى ميادين الحياة.
واليوم، تشهد العديد من المراكز الإسلامية، والمكاتب المرتبطة بمرجعيات دينية مستنيرة مجتهدة باختلاف عائديتها، مدعومةً بأفكار وآراء عقلانية ومتزنة لشخصيات سياسية وثقافية متمدنة وفقهاء منفتحين، تشهد اليوم أكثر من ذي قبل حراكًا ثقافيًا ودينيًا ودفاعيًا وحواريًا. والهدف الأسمى من كلّ هذه التحرّكات والحوارات والنقاشات، العمل على وقف حالة الفوضى القائمة في تفسير مفاهيم الدين وتطبيق جوهرِه والحدّ من خطاب الكراهية القائم الذي أتت به تنظيمات متطرفة غريبة متشدّدة مغالية في تطبيقها لمفاهيم الشريعة الإسلامية، مستندة إلى تفاسير متأخرة أصبحت من الماضي ولم تعد تصلح في زمن التطور والتقدّم والعولمة التي اختصرت المسافات وقاربت بين الأمم والشعوب وجعلت العالم قرية صغيرة يمكن التنزه فيها متى شاء الإنسان العاقل. ولم يكن العراق خارجًا عن هذه الأنشطة، حين استضاف مؤتمرًا لبرلمانات الدول الإسلامية قبل أشهر. فالمسألة بعد قدوم داعش الإرهابي وما اقترفه من جرائم ترقى لحدّ الإبادة الجماعية ومن فظائع كبيرة وقبيحة بحق الإنسانية وضدّ شعوبٍ أصيلة آمنة، أصبحت معقدة والأمور لا تتحمّل أكثر ممّا صار، والعالم لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي إزاء الانفلات القائم والتمدّد الجارف. والإصلاحُ في السيرة والحكم والعلاج باتَ واجبًا شرعيًّا. كما أنَّ النصحَ جزءٌ من رسالة الدّين وواجبات رجالِه، حينما يستنير بهدى العقل والفكر والقلب والروح المتسامية بعبادة الله، وكلُّها أدواتٌ راقية وهبها الله الخالق للبشرية كي تنعم بالحياة وليس لتدميرها. فثقافة الحياة تبقى دومًا أرقى من ثقافة الموت وأجلَّ شأنًا وأكثرَ أمانًا!
- يتبع- ج2
مقالات اخرى للكاتب