عرف العراق حالات “الاختفاء القسري” لأسباب سياسية منذ انقلاب شباط 1963 وارتفعت مناسيبه المخيفة مع عودة البعث للحكم عام 1968 وصعود الفاشية الصدامية بعد ذلك، ثم خلال الحرب مع ايران واندفاع الدولة البوليسية العدوانية في اختطاف المعارضين من الكرد والشيوعيين والاسلاميين وحتى من منتسبي البعث وتغييبهم وتصفيتهم والتنكر لمصائرهم، وقد سجلت وثائق وشهادات المعارضة المسؤولية على نظام الدكتاتورية غير ان المجتمع الدولي وقواه العظمى والهيئات الانسانية تعاملت مع هذه الجريمة الشنعاء بالتهرب والنفاق ووقعت الامم المتحدة نفسها تحت ابتزاز النظام.
وإذ ارتفع عدد ضحايا الاختفاء القسري، بعد الاحتلال وسقوط نظام صدام حسين العام 2003 ، الى ارقام مخيفة، فان المشكلة باتت اكثر فظاعة بضياع المسؤولية عن اختطاف الضحايا والتنكيل والتنكر لهم بهم بين جميع القوى المتصارعة على السلطة من غير استثناء، حكومات ومليشيات وجماعات مسلحة تديرها دول اقليمية، بالرغم من ان عائلات الضحايا ويوميات الاحداث الامنية التي مرّ بها العراق تشكل حيثيات اتهام اولية لهذه الجهة (او الزعامة) او تلك، بل ان القوانين والمعاهدات الدولية تقضي باحالة كل من يشتبه بمسؤوليته المباشرة وغير المباشرة عن جريمة الاختفاء القسري (او يتماهل في واجبه حيالها) الى العدالة حتى تثبت براءتهم، وفي المقدمة منهم ممثلي السلطة التنفيذية.
الى ذلك حددت “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006” المسؤولية الاولى بالحكومات واخضعتها الى الحساب عن مصائر اولئك الذين اختطفوا وغيبوا في حال اهملت هذه المسؤولية او حتى عجزت عن ملاحقة المجرمين، كما تتولى المنظمة الدولية (وفق معاهدات اخرى) مهمة التحقيق والتجريم في حالات لاتستطيع الحكومات القيام بمثل هذه المهمة، وفي السجل الدولي ثمة الكثير من الحالات التي اضطرت فيها حكومات الى الاستقالة عندما تخفق في اقناع الرأي العام بجدية البحث عن المختفين قسريا.
ففي المادة 12 من الاتفاقية (الفقرة 1) تلتزم الدول الموقعة بالتحرك على وجه السرعة لملاحقة المجرمين بان “تكفل لمن يدعي أن شخصا ما وقع ضحية اختفاء قسري حق إبلاغ السلطات المختصة بالوقائع وتقوم هذه السلطات ببحث الادعاء بحثا سريعا ونزيها وتجري عند اللزوم ودون تأخير تحقيقا متعمقا ونزيها، وتتخذ تدابير ملائمة عند الاقتضاء لضمان حماية الشاكي والشهود وأقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق، من أي سوء معاملة أو ترهيب بسبب الشكوى المقدمة أو أية شهادة يدلى بها” ثم، في (الفقرة 2) تجري السلطات “تحقيقا حتى لو لم تقدم أية شكوى رسمية”.
ملف الاختفاء القسري لاسباب سياسية في العراق يضم بين دفتيه فظائع اصابت مئات الالاف من العائلات المكلومة، ويمكن ، اذا ما فتح التحقيق العادل والاحترافي فيها، ان تشكل زلزالا سياسيا واجتماعيا ذا ابعاد خطيرة.. فسيظهر الكثير من اللاعبين (الان) على خشبة المسرح السياسي من غير اقنعة او مساحيق، في مواجهة العاقبة.. وما أدراك ما العاقبة.
“إياك وكثرة الاعتذار، فإن الكذب كثيراً ما يُخالط المعاذير”.
لقمان الحكيم
مقالات اخرى للكاتب