ابتلي العراق بتعدد الجبهات في زمن ضعف السيطرة وغياب الحزم العادل بحق العابثين، فالقصة تبدو «داعشية»، لكن هناك مصادر تهديد أخرى لا تقل خطرا، لأن الهزيمة المحققة مكتوبة على «دواعش الميدان» قريبا، خلاف «دواعش السياسة والتآمر والتفكيك» من النمط «الإخوانجي» المتخلف، ومن وارثي التآمر على وحدة العراق عموما ونسيج عربه تحديدا، ومن الرعاع المناطقيين، ومن المفسدين الذين أفسدوا في الأرض دون رادع. وهذه الحزمة ممن يتطلب الموقف معالجتهم يشكلون تحالفا تتعدد فيه الأدوار، لذلك، لا تزال «الحرب الوطنية الكبرى مستمرة» إلى أن يزرع الله القدرة والتصميم في قلب فريق الحكم وإرادته من أجل الحسم دون الالتفات إلى أي تجاه، وهي مهمة ليست مستحيلة، فقد ثبت بشكل قاطع أن الغالبية العظمى الساحقة من العراقيين مع الاتجاه الوحدوي القوي.
ميدانيا: التحالف الدولي بدأ يحسن استراتيجيته المتلكئة، من حالة الشك في القدرة على الحسم السريع إلى الأمل في اختصار الوقت مع زيادة معقولة في الجهد، وبدأت الضربات الجوية تترك أثرا مهما في بعض قواطع العمليات، التي تتناغم مع تطلعات بعض المحللين الأميركيين ضمن دوائر التأثير في العراق، ومنها ما يخشى من تبعتها على وحدة العراق، إلا أن القدرة المركزية على تقويمها ليست من المستحيلات، ولا شيء أهم من توافر الإرادة الوطنية والحزم، ومن دونهما يبقى المشوار طويلا.
ويمكن تقسيم العراق إلى أربعة قواطع عمليات هي: القاطع المركزي، ويشمل بغداد إلى منطقة مصافي نفط البيجي شمالا، والقاطع الشرقي في محافظة ديالى، والقاطع الغربي في محافظة الأنبار، أما القاطع الرابع فيشمل محافظة نينوى ثاني أكبر المحافظات بعد العاصمة بغداد، والتي يتطلب تحريرها رسم المؤديات النهائية مسبقا، بتقوية القوى الوطنية الوحدوية، وعزل الانعزاليين والمناطقيين من ذوي الأحلام المتخلفة في إحياء تركة الماضي المريضة. ويشكل القاطعان المركزي والغربي ذراعي الحركة القادرة على حماية الأمن الاستراتيجي وأمن بغداد تحديدا. هذا فضلا عن محاور إقليم كردستان.
العمليات في القاطع المركزي حققت نجاحات كبيرة في المنطقة بين بغداد وسامراء، التي تمثل المجال الحيوي للمدينتين الاستراتيجيتين الخطيرتين اللتين لا يحتمل الوضع اقتراب «الدواعش» منهما. ويفترض إعطاء هذا القاطع أسبقية عالية لاستكمال تحريره في أسرع ما يمكن، قبل نقل الجهد المركزي لدحر «الدواعش» في القاطع الغربي حتى سد حديثة داخل، للقضاء على التهديدات المستمرة ضمن خطة ينبغي أن تكون بالغة الدقة لحماية السدود، لما لها من تأثير خطير على أمن المدن الواقعة في أحواض الأنهار، بحكم مليارات الأمتار المكعبة من المياه المخزنة في خزانات ضخمة.
القاطع الشمالي في محافظة نينوى لا يزال يمثل الحلقة الأضعف في خطط التحرير لاعتبارات ومسببات كثيرة. وعلى الرغم من أن المعطيات الجغرافية تؤمن عوامل مهمة يفترض أن تساعد في حسم الموقف خلال فترة وجيزة، فإن غياب الثقة المستمر في العلاقات السياسية والتدخلات المحلية والإقليمية ساعد في تعقيد مرحلة التحضير، فالإجراءات المتحققة من تطوع وتدريب لا تزال دون أقل الدرجات المفترضة، علما بأن الموقف الجغرافي لمدينة الموصل - مركز المحافظة - مناسب لخطط التطويق والعزل، وهي مناورة مثالية على المستويات التعبوية والعملياتية والاستراتيجية. ويبدو أن الصورة واضحة للمخططين العراقيين من خلال ما يدور من تصريحات للمسؤولين، إلا أن شح الموارد - خصوصا تهيئة القوات - والفشل السياسي المحلي في تعبئة الأعداد اللازمة من المتطوعين يعدان من نقاط الضعف، مما يتطلب ظهور قيادات محلية تؤمن بالوحدة والتحرير، وهذا هو التوجه الذي من دونه لا يمكن التغلب على حالة الهذيان السياسي السابق.
ومع أن الحديث يدور دائما عن ضرورة غلق الحدود السورية - العراقية، فإن هذا الخيار يقع خارج الإمكانات العراقية على المدى المتوسط، بيد أن تشديد المراقبة الجوية، وتكثيف الضربات الجوية، وعرقلة حركة الأرتال المعادية للمناورة بين قاطع وآخر وعبر خط الحدود، عوامل تساعد كثيرا في تقليص الفترة الزمنية المطلوبة للتحرير.
وأيا كان الوصف فإن رحلة التحرير قد بدأت فعلا، إلا أن رحلة تقويم مواقف بعض الكتل السياسية لا تزال في حاجة لقرارات ترتقي إلى مستوى الخطر الاستراتيجي، فـ«دواعش السياسة» لا يزال صوتهم مرتفعا، لأنهم أمنوا العقاب، ويفترض أن يكون العام الحالي عام الحسم.
مقالات اخرى للكاتب