لا توجد شخصية عبر تاريخ العراق الطويل تحظى بقبول واتفاق اغلب العراقيين مثل شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم.
ذلك الرجل الذي ولد في محلة المهدية الفقيرة في بغداد، والذي فًصل تكوينه الفسلجي بحسب تنوعات المجتمع العراقي وتعدديته المذهبية والقومية، ابوه عربي - سني، وامه كردية - شيعية، وتنشأته كانت علمانية، بفعل تربيته في بيت ذو الوان متعددة، فضلا عن ترعرعه في منطقة تلم بين طياتها العراقيين من مختلف الملل والنحل .
وعندما هيأت له الاقدار بأن يكون سيد العراق الاول بعد عام 1958، رفض ان يربط البلاد بالدول العربية، ورفع شعاره المعروف ( العراق اولا ) ، اي نبني البلاد ونقويها وعندها سيأتي العرب واحدا بعد الاخر ويطلبون الاتحاد معها .
القوميون والبعثيون اعتبروا شعار (العراق اولا) خيانة للقومية العربية، وبمقتضى الفتوى التي اصدرها الرئيس المصري جمال عبد الناصر فأن عبد الكريم قاسم قد كفر بالعروبة، ومن يكفر بها ليس له عقاب الا الموت، وهو بالضبط ما فعله البعثيون والقوميون العرب في مثل هذا اليوم، اي في 8 شباط من عام 1963، لما انقلبوا على قاسم بالرغم من كونه كان صائما في يوم الجمعة المصادف 14 رمضان.
ومن بين الاشياء التي حببت عبد الكريم قاسم الى الشارع العراقي، هو رفضه للإسلام السياسي ، وكان عذره ان العراق فيه مذاهب متعددة وان الاسلام السياسي سيجعلنا نتساءل: اي المذاهب سيحكم البلاد، ورفضه للحكم القومي كان للسب ذاته: اي ان العراق بلد متعدد القوميات، وقبول الحكم القومي سيجعلنا نتساءل: من سيحكم العراق : العرب ام الاكراد ام التركمان ام .. ؟
حتى شعارات الدولة وهويتها الثقافية كانت حسب وجهة نظره ينبغي ان ترجع الى الحضارات العراقية القديمة، السومرية والبابلية والاشورية، وانعكس ذلك على طوابع الدولة ورموزها، فكانت الشمس البابلية بدلا من العُقاب العربي، وتنشئة الاجيال العراقية كان مقررا ان يتم عبر التركيز على ان العراق امة بحد ذاتها كانت تحكم ما حولها وان انبعاثها من جديد يجب ان يكون هو الهدف السامي في المستقبل .
اما عن بساطته، فقد عرف عنه محبته للأكل من المطاعم الشعبية في شارع الرشيد، وتناوله الدائم لعصير الزبيب من بائعه الشهير حجي (زبالة) ، وكانت اخر عباراته في الحياة : (انا فقير وابن فقير ودافعت عن الفقراء، بنيت لهم المدن وقربتهم مني وحاولت المساواة بين الفلاح وسيده عبر قانون الاصلاح الزراعي) ، وفي هذه الفقرة شهد له حتى اعداءه الذين اشرفوا على اعدامه، حيث يقول احد الحاضرين وقت الاعدام : فتحنا جيوب قاسم بعد ان اطلقنا عليه الرصاص فوجدنا في جيبه ورقة فيها اسماء العوائل المتعففة التي كانت توزع عليها رواتبه الشهرية.
كل هذه الخصال وغيرها كانت سببا في اجماع الشعب العراقي على احترامه.
اذا كان الكلام اعلاه صحيحا، فهل العراق بحاجة الى زعيم وطني يجمع شتاته؟ ام ان عصر الزعماء الوطنيون قد انتهى وان قاسم كانت من وراء زعامته اسباب اخرى اولها حكمه الفردي الذي منع ظهور وبروز غيره، والالة العسكرية الجبارة التي كانت بيده، والجماهير العراقية التي كانت تميز بين البرنامج السياسي الوطني والبرنامج السياسي الذي يمثل الهويات الفرعية ؟
مقالات اخرى للكاتب