يروي ابن عبد ربّه الأندلسي في ( عقد فريده ) عن راوية العرب الأكبر الأصمعي البصري قوله : حين سأل أحَد الأعراب: «ما بال المراثي اشرف اشعاركم؟ قال: لأنّا نقولها وقلوبنا محترقة» (15) ، توقف رجاءً وتأمل ، ثم ادخلْ عامل الزمن ، الشعر عند احتراق القلوب هو ندب، وبكاء،وعويل، والبكاء يشفي الغليل،ولا يجدي بكثير ولا بقليل ،من مات فات ،وكلّ ما هو آتٍ آت،والدنيا تدور ،وكلّ حيٍّ إلى القبور، وكلّ من يندب سيندبونه ، وما كلّ ندبٍ كندب،لا على سبيل الجودة في الإبداع والإلهام ،وإنما الحاجات والدوافع النفسية ليست في كلّ الأحوال حالٌ مثل حال،وإن كان الإنسان عند الأنسان سيان في سياق الزمان باديه وغاديه أنّى يبثّ الأشجان،وشواهدنا :
1 - ابن الرومي يندب ابنه الأوسط محمد :
ابن الرومي (مواليد بغداد سنة 221هـ / 835 م , وتوفي مسموما فيها على يد الوزير القاسم بن عبيد الله سنة 283 هـ / 896 م ) ، ذو النفس الطويل،والساحر في التحليل ،والمصور البارع لأحداث الدنيا ، ولكل أمرٍ جليل ، وما أعظم المصاب والرزء الجلل ، عندما يدهم الحمام واسطة العقد من الأبناء ، انظر إليه مشفقاً حدبا ، كيف يندب ولده الأوسط محمد في مطلع قصيدته الإنسانية الخالدة ، والتي تعد من عيون الشعر العربي - سننقلها لكم في حلقة قادمة كاملة - ببحرها الطويل ، وقافيتها المتواترة ، المستكينة الهادئة ، وحرف رويها بمجراه الشجي كسراً!! :
بكاؤكُما يشفي وإن كان لا يجدي**فجودا فقد أودى نظيرُكما عنْدي
بُنَيَّ الذي أهدتهُ كفَّاي للثـَّرَى**فيا عزَّة َالمُهْدى ويا حسْرةَ المُهْدي
ألا قاتلَ اللَّهُ المنايا ورميَها *** من القومِ حَبّاتِ القلوبِ على عَمْدِ
توخَّى حِمَامُ المَوْتِ أوسطَ صبيتي***فلله كيف اختار واسطة َ العِقدِ
على حين شِمْتُ الخيرَ من لَمَحاتِهِ*** وآنستُ من أفعاله آية َ الرُّشدِ
طواهُ الرَّدى عنِّي فأضحى مَزَارُهُ *** بعيداً على قُربٍ قريباً على بُعدِ
لقد أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها **** وأخلفـَتِ الآمالُ ماكان من وعْدِ
لقد قلَّ بين المهْدِ واللـَّحْدِ لبثـُهُ**فلَم ينسَ عهدَ المهدِ إذ ضُمَّ في اللَّحدِ
تنغَّصَ قَبلَ الرَّيِّ ماءُ حَياتــــــهِ ** وفُجِّــــــــــــعَ منه بالعذوبة والبرْدِ
ألحَّ عليه النَّزفُ حتى أحالهُ *****إلــى صُفرةِ الجاديِّ عن حمرة الوردِ
وظلَّ على الأيدي تَساقط نَفْسُه ****ويذوِي كما يذوي القضيبُ من الرَّنْدِ
فَيالكِ من نفس تساقط أنفســــــاً ******تساقط درٍّ مــــــن نِظَام بلا عقدِ
عجبتُ لقلبي كيف لم ينفطرْ لــــهُ **** *ولو أنَّهُ أقسى من الحجر الصَّلدِ
بودِّي أني كنتُ قُدمْتُ قبلــــــــــــهُ ****وأن المنــــايا دُونهُ صَمَدَتْ صَمدِي
ولكنَّ ربِّي شاءَ غيــــــــرَ مشيئتي ****** وللرَّبِّ إمضاءُ المشيئة ِ لا العبدِ
وما سرني أن بعته بثوابه *** ولو أنه التخليد في جنة الخلد
ولا بعته طوعا ولكن غصبته***وليس على ظلم الحوادث من معدي
وإني وإن متعت بابني بعده ***لذاكره ما حنت النيب في نجد
وأولادنا مثل الجوارح أيها ***فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكل مكان لا يسد اختلاله *** مكان أخيه في جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفي مكانه *** أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي (16)
تأمل مرّة ثانية ، ولا أخالك تحتاج إلى كثير من الجهد لتصل إلى عبقرية شاعرنا العربي البغدادي مولداً ونشأة وثقافة وولاء وحبّاً وتعلّقاً - ولم نرَ ساحةً واسعة ، ولا شارعاً كبيراً في بغداد يتتشرفان بحمل اسمه ، متى نمجد عباقرتنا ، ونعتزّ بهم كبقية أمم العالم المتحضرة ، يا سادة ... يا كرام ؟ أين العراق من العراق ؟!!! ، نرجع إلى ندب ابن الرومي ، والرومي أرومة ...في استدارة مقود القصيدة العصماء بقدرة ملاح ماهر ، وفنان قدير ، وشاعر ملهم من استدراكه ( ولكن ربي...) ، يعني سلم الأمر لرّبه ، فمسح دموعه وهدّأ روعه، وحوّل ندبه الباكي إلى الرثاء الواعي !!! وما كلّ ندبٍ بندبٍ ، فندب ابن الرومي لابنه الأوسط مثلاً ، بعد أن أنْجَزَتْ فيه المنايا وعيدَها ، وهوعلى فراش المرض ،ألحَّ عليه النَّزفُ ،وظلَّ على الأيدي تَساقط نَفْسُه أنفساً ، غير ندب الجواهري لأخيه جعفر.
2- الجواهري يندب أخاه الأصغر جعفر :
محمد مهدي الجواهري ابن الشيخ عبد الحسين بن الشيخ عبد علي بن الشيخ محمد حسن صاحب جواهر الكلام من مواليد النجف 26 تموز 1899م ، توفي في دمشق 27 تموز 1997م ، له من الأخوة عبد العزيز وهادي ، وأصغرهم جعفر ( مواليد النجف 1914 م) ، وهو الذي استشهد في معركة الجسر 1948م .
بعد وثبة 27 كانون الثاني عام 1948 م، تلك الوثبة التي انتفض فيها الطلبة وجميع القوى الوطنية التقدمية في تحدي النظام برفضها توقيع معاهدة بورتسموث الجائرة، فغلت دماء شباب طلبة الكليات والمعاهد والثانويات في جميع مدن العراق ، وحدثت المواجهات بين أفراد الشرطة ، والشباب الواعي الثائر ، ومن أهم المواجهات حادثة معركة الجسر الشهيرة التي سقط فيها عشرات المتظاهرين بين شهيد وجريح ومنهم (جعفر الجواهري )، وقد توفي يوم الخميس ، الخامس من شباط 1948 م ، بعد سبعة أيام من إصابته بجروح بالغة في الصدر،
ارتجل الشاعر الجواهري قصيدة رائعة وسمها بـ (أخي جعفر) ندب فيها أخاه الجعفر ، ثم ألقاها بعد إتمامها في الحفل الكبير الذي أقيمَ في جامع الحيدر خانة في بغداد بمناسبة مرور سبعة أيام لاستشهاده ، وقد قدّم لها بالكلمات الخاشعة الموجعة مخاطباً أخاه الفقيد الشهيد
!! " أحب أن أخبرك يا (جعفر) بأشياء ... وأشياء... هي (التأريخ) كامله ! وهي (البشرية) كلها وهي (الحياة) بنقائضها سأصبها قريباً بكل صراحة ممزقة ! تليق بأخيك...
- سأصبها يا أخي (جعفر) على مسمعكَ , بكتاب مصبوغ بدمك ... ملتهماً بما في قلبي من شرر يقدحهً هذا (اليوم) على مرّ الدهور , وكرّ الأزمان...." يقول الجواهري :" تركت مجلس الفاتحة بخلاف ما ينبغي ودخلتً البيت الأسود والكئيب الحزين ، واقتحمت ً أصغر الغرف وأشدها قتامه وأغلقتً عليّ الباب وبدأت الحَداء بصراخ لم أمارسهً من قبل،صراخ الشاعر الذي لا يستطيع أن ينسى طيف شهيدة ،ولم يوَدٍع أعزُ منهُ ، صراخ من يحمل مسؤوليته ومسؤولية اندفاعه الثوري لأخًطّ ما تنزّل عليّ من إلهام شعري " . (17)،
إذن الجواهري ندب ارتجالاً ، بكى وهام ، وصرخ ، وربما ولول ، ولم تنطفئ جذوات الثأر ، والحقد المقدس من نفسه ، ولم يستسلم لمشيئة الله ، وحكم القدر تحملاً بقناعة مسبقة عقبى مرضٍ عضال أودى بفقيده كحال ابن الرومي المفجوع بولده ، بل في كلّ حين تتأجج حرقة قلبه ليثأر من فاعل معلوم ، وحكم مأجور ، ويتداخل عنده الخاص بالعام ، والذاتي بالموضوعي، وأوجاع الفرد بآلام الجمع ، وأراه شاخصاً الآن أمامي يجول ويصول في غرفته الصغيرة القاتمة، ويحدو بتفعيلات قصيرة متشابهة ، ويختمها بالحذف في كل شطرٍ ، ليتابع الشطر الثاني بتلهف ، بعد أن يسكب آهاته مع امتداد مجرى الرفع رفعة ، وبقافية متداركة متفهمة للأوضاع ، ومصير الثائرين ، وهكذا ولد ( البحر المتقارب التام المحذوف ، بقافيته المتداركة ، ورويها الميم ، ومجراه الضم) ، وإليك من القصيدة أبيات الندب الخاص العام ، مجرى لدمعة ، ودعوى لثورة :
أتعلم أنت أم لا تعلمُ *** بأنً جراحَ الضحايا فـــــــــمُ
فمً ليس كالمدعي قولهُ *** وليسَ كآخرَ يسترحِــــــمُ
يصيحُ على المدقعينَ الجياع **أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهتِفُ بالنَفر المهطعين*** أهِينوا لِئامكمُ تُكرَمــــــــوا
أتعلَمُ أنً رقابَ الطُغاةِ **أثقلَها الغُنْمُ والمأثــــــــــــــــمُ
أتعلمُ أنً جِراحَ الشهيد*** تَضَلُ عن الثأرِ تستفهِــــــــمٌ
تمصُ دماً ثم تبغي دماً **وتبقى تُلِحُ وتستطعِـــــــــــــمُ
*********************************************
أخي جعفراً يا ُرواءَ الربيع ****إلى عَفِنٍ باردٍ يُســـــــلَمُ
ويا زهرةً من رياضِ الخلـودِ *** تَغَوَّلها عاصـفٌ مُـرْزِمُ
ويا قبساً من لهيب الحيـــاة ***خَبا حينَ شبَ له مضْـرَمُ
ويا طلعةَ البِشْرِ إذ ينجلـي *** ويا ضِحكةَ الفجرِ إذ يَبْسِمُ
لثَمتُ جراحكَ في فتحـتٍ ***هي المصَحفَ الطهرُ إذا يلثمُ
وقبّلتُ صدرَكَ حيث الصميمُ**** مِنَ القلبِ مُنْخَرِقَاً يُخْرَمُ
وحيث تلوذُ طيـــــورُ المُنـى****بهِ فهي مُفزعةٌ حُـــــوَّمُ
وحيث استقرّت صفات الرجال***** وضَمَّ معادنَها مَنْجَمُ
ورَبَّتُ خـدَّاً بماء الشبـــــابِ**** يرفُّ كمــا نَوَّرَ البُرْعُمُ
ومَسَّحْتُ مـن خِصَـ ــلٍ تَدَّلي***عليهِ كمــــــا يفعل المُغْرَمُ
وعلّلتُ نفسي بذوبِ الصديـدِ****كمــــا عَلَّلَتْ وارداً زمزمُ
ولَقَّطتُ مـن زبَــــــدٍ طافـحٍ**** بثغرِكَ شــــــهداً هو العَلْقَمُ
وعَوَّضتَ عــــن قُبلتي قُبلـةً**** عَصَرْتَ بهـــا كلَّ ما يُؤْلِمُ
عَصَرْتَ بها الذكريــــاتِ التي***** تَقَضَّتْ كمـــا يَحْلُمُ النُّوَّمُ
أخي جعفراً إنَّ رَجْعَ السنينِ ****** بَعْدَكَ عندي صدىً مُبْهَمُ
ثلاثـونَ رُحْنَا عليها معــــــاً ***** نُعَذَّبُ حينــــــــاً ونستنعِمُ
نُكافِـحُ دهـــــــــراً ويَسْتَسْلِمُ****** ونُغْلَبُ طَــــوراً ونَستَسْلِمُ
*************************************************
وأَبْلَغَ عنكَ الجنـوبُ الشَّمالَ ******وعَزَّى بكَ المُعْرِقَ المٌشْئِمُ
وشَقَّ على "الهاتفِ" الهاتفونَ***** وضَجَّ من الأسْطُرِ المِرْقَمُ
وَهُمْ بكَ أولى وإِنْ رُوِّعَـــــــتْ ******عجوزٌ علـــــى فِلْذَةٍ تَلْطِمُ
وأُخْتٌ تَشُقُّ عليكَ الجيــــــوبَ ***** فيُغْرزُ فــي صدرِها مِعْصَمُ
تُناشِدُ عنكَ بريقَ النجـــــــومِ ******لَعَلَّكَ مــــــــــن بينها تَنْجُمُ
وتَزْعَمُ أنَّكَ تــــــــأتي الصباحَ******* وقــد كَذَّبَ القبرُ ما تَزْعَمُ
لِيَشْمَخْ بفَقْدِكَ أَنْـــــــفُ البلادِ ***** وأنفـــــي وأنْفُهُمُ مُــــــرْغَمُ
تعال معي قارئ الكريم ، أشاركك الرأي ، كيف ندب جواهرينا ، وهو في بدايات كهولته أخاه الأصغر الشهيد الجعفر ، ويصغره بخمس عشرة سنة ، في غرفة قاتمة صغيرة في بيته النجفي هائماً متمرداً ، حانقاً ، حاقداً، والمفارقة كان هو في ربوع لبنان يقضي إجازته، ورجع للوطن الثائر إثر نزول الخبر عليه كالصاعقة ، والمفارقة الثانية الشهيد نفسه ، كان مقيماً في دمشق يدرس الحقوق ، وساقته الأقدار إلى حتفه ، المهم كيف ندب ؟ لا أرى الرجل كان مستوعباً للحدث ، ضربته الأقدار غيلة ، فأخذ يدمدم ... تارة ، ويهدهد الأشعار تارة أخرى ، ويبكي طوراً ، ويمسح الدموع بمنديله ، ويتأمل حينا بأمر دنياه ، ولا يدري لمن يوجه كلامه ،وكما يقول بيافته الجميلة :
وقلت وما أحيـر سـوى عتـاب *** ولسـت بعـارف لمـن العتـاب
والحق هنا ليس موضع عتاب ولا كتاب ، وإنما سباب وحراب !! فشرع يخاطب بالاستفهام الاستنكاري ، وبالضمير الغائب ، وببحر تفعيلاته خماسية قصيرة متتالية ، لا تسمح له نفسه الممتلئة بالآهات والآلام والأحزان أن ينحرف لتفعيلة أخرى قصيرة أو طويلة ، بل لم يستطع تكملة تفعيلات الشطر الواحد فلجأ إلى الحذف مع ضم الروي لتمتد أنفاسه المكبوتة كمن ينفث الدخان بين لحظة وأخرى ، ولكن والحق يقال ، لم تكن قافيته متكاوسة أو متراكبة مما يعطي انطباعاً أنه يتراكض لاهثاً ، ولا يالمتواترة الهادئة المتأملة جداً ، أو المترادفة الحازمة القاطعة ، بل متداركة متفهمة متعقلة للأحداث ، رغم الهيجان النفسي الحاد الذي كان يمرّ فيه الشاعر ، ولم يكلف جواهرينا نفسه بحرف رويّ صعب المنال ، وإنما إلى الأسهل والأجمل ، والأكثر شيوعاً ، ويمتلك هذا الروي من الذخيرة الثرية ، يستطيع بها أن يمدّ الشاعر بما يشاء حتى تنقطع أنفاس وأنفاس ، ويشاور شاعره ، هل ترغب بالمزيد والمزيد ؟!!
وقبل أن ننتقل إلى المقطع الثاني مما أوردناه ، نعرج على مرثية ابن الرومي السالفة ، الرجل بدء قصيدته مستسلماً لقضاء الله وقدره نادباً باكياً متململاً متبرماً غير حانق أو ثائرٍ أو متمرد ، فكان البحر الطويل يمنحه الاتساع في التحليل والتساؤل ووصف الحالة ،وذكر آماله الضائعة ، ورجائه للجنات الخالدة ، وضرب الأمثلة لتثبيت قناعاته ، وحقائق الدنيا ومسيرتها ، وكل ذلك يختمه بقافية متواترة باردة هادئة ، وبمجرى الكسر الشجي الناحب،وهذا لا يعني أن ابن الرومي لم يجرِ في دمه جذوات الثأر والحقد المقدس ، والتمرد على الظلم الاجتماعي ، ومساندة الثوار المتطلعين إلى الحرية والعدالة والمساواة ، فنجده في قصيدته الجيمية الملحمة العصماء في رثاء أبي الحسين يحيى بن عمر العلوي ( قتل أيام المستعين سنة 250 هـ) ، وهي أيضاً من البحر الطويل ، فما كان الفقيد الشهيد أخاً له لتغلي دماؤه بثورة بركانية آنية يمتزج فيها الخاص بالعام ، كما هو حال الجواهري وأخيه جعفر ، ولكن أيضا قافيتها كانت متداركة متفهمة راكزة ، ومجرى رويها الضم المرفوع ، لا الكسر الشجي ، وإليك ما اعتلج في كوامن نفسه من حرقة.