أيّ عربيّ يُبتلى بالانشغال بالواقع العربي الرّاهن يكون قد انقاد إلى قدر بائس يملأ حياته حزنا وهمّا وغمّا...وهو إذ لا يقدر على الإفلات من قدره المحتوم يظلّ يستجدي أيّ بارقة أمل تُخفف عنه أعباء معاناته من هذا الهمّ العربي الذي قُدّر له أن ينقاد إليه بحثا عن ذاته في سراديب الضياع...
وليس لهذا التقديم أن يُمهّد لعملية استدراج مُنفّرة إلى الخيمة العربية حيث يُنتهك الشرف وتُداس الكرامة وتُمارس رذائل الخيانة والنهب والصعلكة وتُقترف أبشع جرائم الإذلال والاستبداد والإبادة،إلى حدّ أنّ اللغة العربية بكلّ ثرائها-بعد أن استُهلكت ندبا وعويلا وصراخا فبحّ صوتها- لم تعد قادرة على تأدية وظيفتها البلاغية في تصوير هول الكارثة ووضاعة المشهد ...
لست ممّن يمارسون هواية جلد الذات أو يستمتعون بمشاهدها،فهي في ظنّي مقرفة وبغيضة...
أنا-اللحظة-في حالة المتعب بأعباء الهمّ العربي،أبحث في إفرازاته وخفاياه وظلاله عن مظاهر بهجة وانشراح ألتقطها بشغف ونهم لأستعيد أنفاسي،قبل أن أختنق،برّا بحلم عربي جميل لا يزال يراودني ويُطلّ عليّ من تحت الأنقاض العربية التي أنبش أنفاقها ووجهي معفّر ويداي داميتان...
قلّبتُ المشهد فوقفتُ على ما شدّني إلى بهجة الحياة،بعيدا عن جحيم الفكر وهوس الضجر...فانخرطتُ للتّوّ بحماس في حزب عربي جماهيري واسع الانتشار،نشيط الحركة،يفور بفتوّة شباب تفعل فعلها السحري حتى في الكهول والشيوخ والنساء والغلابة وتحقنهم بإكسير من الحيوية والانشراح والاندفاع...
إنّه حزب حوّل الواقع العربي إلى شيء بديع وجميل بحركته التي لا تهدأ،وبهامش واسع من حرية التعبير والتدبير،وبقيادات انتخبها منخرطوه بتصويت علنيّ حرّ ومباشر وصريح،دون مجاملة ولا وصاية...لكلّ منخرط في هذا الحزب حقّ الاختيار،وتعديل اختياره وتصويبه وتغييره متى شاء،وحقّ الاعتراض على اختيار غيره بمحض إرادته ووفقا لتقييمه وأهوائه ومزاجه...
لهذا الحزب طقوس تفرض على قياداته ممارسة مهامّها وتأكيد جدارتها في العلن،دون تضليل أو إخفاء للعاهات والقصور،وبالتدليل على فصاحتها وبلاغتها الخطابية بلغة غير لغة الكلام المخادعة...وهي تحظى بالإعجاب والتقدير والمديح وتزدان البيوت والشوارع بصورها ..وتُحمل على الأعناق إن أجادت دورها وأبدعت في الأداء..وحققت النتائج المؤمّلة..أما إذا كان أداؤها رديئا ومردودها هزيلا وخيّبت آمال جماهيرها وانقادت إلى الهزيمة ..فهي تُنتقَد بشراسة وتطاردها اللعنة ويلحقها الأذى ويُطاح بها...
في حالة الفرحة أو الاستياء تّعبّر الجماهير عن مشاعرها بعفويّة وتلقائية،لا تخشى رقيبا ولا سلطة...فهي،إن غصّت بها الشوارع مهللة مكبّرة هازجة راقصة أو هادرة غاضبة ثائرة..لا تستأذن ولا تسترخص ولا يحُول دون مسيراتها أو مظاهراتها الطوعية قمع ..ولا تُطاردها تُهم الخيانة الوطنية.. أو الإرهاب...بل تُسخّر لها كلّ الوسائل التي تُحافظ على أمنها وسلامتها وتُقلّص من فواجع انزلاقات المشاعر المتهوّرة من فرط الفرحة أو الغضب...
إنّ جماهير هذا الحزب العربي الواسع الانتشار تلقى كلّ الرّعاية والحظوة والتبجيل...تتهافت عليها وعلى قياداتها كلّ وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وتفتح لها صدرها الرحب لتنقل فعالياتها بأمانة وموضوعية، ولتلتقط خلجاتها وأحاسيسها وهواجسها وتطلّعاتها،ولتُسخّر لها،برغبة لافتة وعن طيب خاطر،حتى لا يُكتم صوتها ولا تُحرم من قنوات تعبير وطنيّة تُفرغ فيها شحنات ضاغطة من النقد والتحليل وترجمة الرّأي والرّأي المخالف وحتى الاحتجاج والشتم والتجريح...ولا بأس،إن اقتضى الحال،أن تطال حرّية التعبير الواسعة المتاحة،هتك العرض العربي في هذا البلد أو ذاك،وتغذية الأحقاد العربية العربية،فحرّية الإعلام مقدّسة ولا يُمكن التفريط فيها حتى إن تسببت في حروب الجاهلية العربية.ا..
قلت وأنا أفتح عينيّ على هذا المشهد الرّائع الجميل:ما أغباني،وكلّ الذين انشغلوا،ولا زالوا،بالرداءة العربية وبمآسي عربية شبيهة بتلك التي تُدمي القلوب في فلسطين والعراق وسوريا والسودان والصومال واليمن وليبيا و ...والحال أنّه ثمّة جماهير عربية عريضة اخترقت كلّ الحواجز وقفزت عن الهموم بانخراطها في حزب كرة القدم وعالمه السحري واستطاعت أن تؤمّن حرّيّتها وتستمتع وتعربد وتصرخ،دون أن تزُجّ بنفسها فيما لا يُحمد عقباه.
مقالات اخرى للكاتب