الكاتب المسرحي العبثي الروماني الاصل والفرنسي اللغة يوجين يونسكو ، مبدعا في احدى مسرحياته ( الخرتيت )عن مجتمع من فاقدي الحس والذوق والعقل والشعور ، تتحول فيه خلق البشر الى ملامح خرتيتية . يحكي يونسكو في هذه المسرحية عن مرض اشبه بالوباء اصاب مدينة بكاملها. فجأة وسط رتابة الحياة الراكدة المملة يقع حدث فذ يهز كل هذه الكيانات الغافلة، لقد ظهر (خرتيت) ضخم هائج يتجول في شوارع المدينة بكامل حريته، وامامه يجري الناس فزعاً وخوفاً، ويتحول هذا الخرتيت الى محور لحديث الناس في كل مكان، في البيت، في المقهى، في المكتب، في كل شارع من شوارع المدينة، هل هناك خرتيت حقاً ام هو وهم لا أصل له؟ واذا كان موجوداً فهل له قرن واحد ام قرنان؟
ووسط هذا الهذيان العاصف الذي يتبادله الناس في مجالسهم ومنتدياتهم، يتكاثر ظهور الخراتيت في المدينة، كلما مر يوم يتناقص عدد البشر، وازداد عدد الخراتيت، حتى –جان- المثقف المتحذلق يتحول الى خرتيت بل حتى بوتار زميل بيرنجي بطل المسرحية في المكتب الذي كان يتحدى بتشككه كل نزعات بيرنجيه التصديقية رأى ان يتخلي عن شكوكه ومنهجه الحسي وان يساير هو الآخر روح العصر.
ويبدأ كل من يعرفهم بيرنجية في التحول، الواحد بعد الآخر، الجميع يسعون الى خلع ردائهم الانساني ويكتسبون شيئاً فشيئاً صلابة الجلد الحيواني، حتى يمكنهم ان يسبحوا مع التيار السائد في زمانهم، ويعزفوا نفس النغمة التي يغنيها الجميع بلا وعي، وظلت المقاومة لهذا الوباء تتناقص يوما اثر يوم، حتى باتت شذوذاً يدعوا الى الدهشة ووضعاً معيباً يدفع صاحبه الى الخجل منه والسعي الحثيث للحاق بموكب الخراتيت الذين يهزون اركان المدينة كلها بأقدامهم الصلبة واصواتهم الصدئة، وقرونهم التي تهدد حياة الآخرين.
لم يبق لبيرنجية في هذه المدينة كلها سوى ديزي زميلته في المكتب وحبيبته، ماذا بوسعهما ان يفعلا الآن؟
سيتزوجان، سينجبان نسلاً يملأ الدنيا بالبشر من جديد، هيا يا ديزي، اذن لننقذ العالم، ولكن ديزي تضعف فجأة، انسانيتها هي ايضاً تنضب، عاطفة قوية في نفسها تنحو بها الى الايمان بعالم الخراتيت، يا لها من قوة، الحب البشري عاطفة رخوة، من يدري ما هو الحق؟
ربما كان هؤلاء الخراتيت هم الذين على حق، حياتها مع بيرنجية لم تعد ممكنة، فلتمض هي ايضاً، ولتترك بيرنجية في وحدته المطلقة، الخراتيت، هم الذين على حق.
انه مرة اخرى وجها لوجه مع نفسه، ومن حوله الخراتيت تحيط به من كل جانب، تحاصر روحه، وتهدد حياته، وتتأهب لتمتص آخر قطرة في دمه.
ماذا بوسعه ان يفعل ؟
انه جزيرة منعزلة وسط محيط هادر من الخراتيت، يوشك هو ايضاً ان يضعف، ولكنه رغم ذلك يقاوم، لن يخضع لسكين القاتل ابداً، سيحارب العالم اجمع دفاعاً عن نفسه، انه الانسان الاخير في العالم، وسوف يظل
هكذا حتى النهاية... آخر خط للدفاع عن منطق العقل وقيمة الانسان وشرف المواطن في مدينة يداس فيها كل شيء تحت الاقدام الحيوانية الثقيلة – الخراتيت
مقالات اخرى للكاتب