(ما نراه اليوم في العراق قمة ما كان تنظيم ما يعرف بـ(الدولة الاسلامية في العراق والشام) (داعش) يسعى اليه منذ تأسيسه عام 2006) هكذا يصف الباحث في شؤون الإرهاب (براين فيشمان) تأسيس الحكومة التي أعلن عنها في الموصل وهي تمثل حسب رأي متبنيها بذرة دولة الخلافة الإسلامية التي ستشمل مستقبلا دولا أخرى عربية وإسلامية حسب بيان التنظيم، وفي وقت ما تزال الحكومة العراقية المرتقب تشكيلها في طور الولادة العسيرة التي لا تنبأ بوقت قريب لخروجها من شرنقة التفاوض والتوافق تبقى أزمة الموصل (سيدة) الأزمات منذ أحداث عام 2006 التي أعقبت تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء.
تكمن خطورة هذه الأزمة في تعدد أبعادها فهي إضافة الى ما مثلته من انكسار في صورة القوى الامنية العراقية والتي تمثلت بتلاشي وذوبان أكثر من ثلاث فرق عسكرية دون مواجهة مع مسلحي التنظيم، فقد أخذت أبعاد سياسية تمثلت في دخول الطرف الكردي ضمن محورها، حيث لم تكن هذه الأحداث ضمن عنوانها الطائفي المتعارف عليه (السني-الشيعي) فقط كما هو معروف بعيد 2003 بل تطور ليكون صراع قومي أيضا (عربي-كردي) بعد اتهام بغداد لحكومة الإقليم وقوات البيشمركة بتسهيل دخول وانتشار المسلحين ومن ثم الاستيلاء على أسلحة الجيش العراقي (حسب ادعاء حكومة بغداد) ليصبح صراعا رباعيا.
في ظل هذه التداعيات السريعة والحرجة امنياً وسياسياً، التي تكاد تربك العالم عموما ودول المنطقة خصوصا يبقى المشهد العراقي في غرف الطوارئ يبحث عن حالة توافقية لترتيب أوراق المتصارعين العالميين على الساحة العراقية.
الانهيار الأمني الذي انطلق من محافظة الموصل في الأول من حزيران الماضي وشمل محافظات صلاح الدين وبعض مناطق ديالى وكركوك، شكل منعطفا مهما في اعادة ترتيب أروقة الحالة العالمية انطلاقا من العراق، وبوجود صراعات داخلية لدول تشمل الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والسعودية، حيث يحاول المتصارعون فرض سياساتهم على منافسيهم داخل دولهم ومن ثم الانطلاق بها لتطبيقها في ساحات الصراع العالمية ومنها العراق.
لماذا الموصل؟
لم يكن اختيار المسلحين من تنظيمات ما يعرف بـ (دولة العراق والشام الإسلامية) لاجتياح مدينة الموصل اختيارا عفويا، فرغم وجود دلالات على مشاركة لمخابرات إقليمية في التخطيط للعملية إلا إن مجموعة الأسباب التالية ساهمت بقوة في انهيار الوضع الامني دون غيرها من المدن ومنها:
1- الجانب الاجتماعي، فالمدينة تميل للمدنية أكثر منها للعشائرية، فالنسيج المدني يسهل اختراقه بشكل اكبر من النسيج العشائري، اي عدم وجود ثقل عشائر في مركز المدينة سهل السيطرة عليها واجتياحها رغم انهم سيواجهون صعوبات في التماشي مع طبيعتها الاجتماعية فيما بعد.
2- وجود عدد من القيادات العسكرية والسياسية للنظام السابق والتي تعاني من مشاكل معقدة مع النظام السياسي الحالي حيث وجد فيها التنظيم حلفا جيدا (ولو مؤقتا) للانقضاض على القوات الحكومية فيها بما يملكون من خبرة عسكرية وقتالية.
3- اما من الجانب الجغرافي فالمحافظة تملك حدود شاسعة وسهلة الاختراق مع سوريا والتي يسيطر التنظيم فيها على مساحات واسعة نتيجة فقدان الحكومة السورية للسيطرة على تلك المناطق، والتي بقيت مناطق رخوة منذ عام 2003.
4- ثم يدخل عنصر مهم آخر وهو تداخل القوات العسكرية في مناطقها فأجزاء منها تمسك بها القوات الكردية (البيشمركة) مثل سهل نينوى فيما تسيطر القوات الأمنية التابعة للحكومة الاتحادية على باقي الأجزاء.
5- المشاكل بين حكومة المركز والحكومة المحلية للمحافظة وبالتحديد مع محافظ المدينة خلقت علاقات متجمدة مع القوات الاتحادية ساهم بشكل كبير بتأجيج الوضع الداخلي ضدها وضعف وغياب التنسيق فيما بينهم.
6- ضعف وسبات الجهد الاستخباري للحكومة المركزية بشكل يكاد يكون تام، وعدم نجاحه في اختراق العناصر المتطرفة وجمع المعلومات عن تحركاتها.
فجر هذا الاجتياح لمدينة الموصل عنفا متصاعدا في الكثير من المدن الأخرى التي تقطنها غالبية سنية، وهدد بالعودة الى وضع 2006 مرة أخرى، تنظيم ما يسمى بـ (داعش) تتبع إستراتيجية جديدة وهي (مسك الأرض) ويحاول إتباعها في الكثير من المواقع التي يتربع على كرسي الأمن فيها، محافظة نينوى والتي تعد من اكبر المحافظات الشمالية في العراق لم يكن التنظيم بعيدا عنها، بل ان المعلومات تفيد بانه (اي التنظيم) ومنذ أربع سنوات تقريبا يتحرك في هذه المحافظة بشكل جدي ويفرض رسومات نقدية على الكثير من أصحاب الدخل الجيد بعنوان دعم (المجاهدين) لتوفير قاعدة تمويل جيدة تمكنه من تهيئة قواعده لشن العلميات العسكرية والانتحارية.
من ضمن نتائج هذا الاجتياح هو تصاعد اعداد العراقيين المتوفين والمهجرين حيث قالت الأمم المتحدة في بيان لها إن 2417 عراقيا على الأقل قتلوا وأصيب 2287 في "أعمال عنف وإرهاب" في يونيو حزيران الماضي مع اجتياح مسلحين متشددين شمال العراق فيما فجر أسوأ أعمال عنف منذ سنوات.
مستقبل هذا البلد في اضطراب وغموض كبيرين فالتلاطم السياسي لا يزال على أوجه وخصوصا بين اقرب الكتل تحالفا ناهيك عن الفرقاء الآخرين، الأمور لا تسير وفق نظام او قواعد لعب واضحة بل انها تتخبط بشكل عشوائي وتخضع لمبدأ اي الإطراف أكثر إقناعا (لأصدقاء الخارج)، المستقبل السياسي والأمني مترابطان بشكل وثيق، وهذا ما يكاد يتفق عليه كل من دخل على خط الأزمة فعلى المستوى السياسي وعلى الرغم من عقد الجلسات الأولى حسب التوقيتات الدستورية وحضور معظم القادة والكتل السياسية، الا ان النتائج لم تكن بمستوى الطموح السياسي في اختيار الرئاسات الثلاثة والمضي في العملية السياسية.
ما زالت جسور الثقة بين الكتل وقادتها مهشمة، وبالتالي قد ينعكس هذا الامر سلبا على تردي الحالة الأمنية واستمراره، وقد كان الامر واضحا من خلال المناوشات الكلامية التي جرت داخل البرلمان في جلسته الأولى.
سيناريوهات المستقبل السياسية
اما سيناريوهات المستقبل السياسية فلا تكاد تخرج من ثلاث احتمالات تتمثل في:
الاول: حكومة أغلبية سياسية
وهو سيناريو ضعيف التطبيق الى حد لا يكاد يرجح قيامه بعد تراجع حتى من دعا اليه وتبناه وهو رئيس الحكومة المنتهية ولايته السيد المالكي ويعد هذا التراجع خطوة كبيرة للوراء في الحالة السياسية العراقية بعد الاهتزاز الامني الحاصل في المناطق الغربية والشمالية من العراق.
الثاني: حكومة شراكة وطنية (الفريق المنسجم)
وهو ما يتوقع حصوله خصوصا بوجود الأوضاع الأمنية الحالية والتي شدد اكثر من طرف اقليمي ودولي على ان المواجهة الأولى لهذه الأوضاع بإنتاج حكومة ذات قاعدة سياسية واسعة وتحظى بقبول داخلي وخارجي وهذا ما يحاول اغلب السياسيين السير نحوه باستثناء كتل قليلة لا زالت غير واضحة في مواقفها.
الثالث: حكومة شراكة (نسبياً) ومعارضة برلمانية
وهو سيناريو مازال من ابعد الأطروحات العراقية في وضعه الحالي والمستقبلي المنظور على اقل تقدير، ففكرة المعارضة مازالت تعني للكتل العراقية بانها التشريد والاعتقال والإقصاء ومن جهة الحكومة فانها تعتبر المعارضة الجهة المتآمرة والتي تعمل بعكس امن الدولة ومصالحها.
أما امنيا فما زالت العمليات العسكرية تتسم بالبطء والتراخي، وغياب عامل الحسم، سيما وان أي تعطيل او تأخير لا يصب في صالح الحكومة العراقية او العملية السياسية، كما ان عملية احتواء المتطوعين ضمن الأجهزة الامنية ضعيفة وغير نظامية، إضافة الى عدم توفير المستلزمات والتدريب الضروري لهم، علما ان عدد المتطوعين تجاوز 2 مليون متطوع، حسب ارقام شبه رسمية، ومن جانبها فان القيادات الأمنية والقادة العسكريين مازالوا يتسمون بالضعف وقلة الخبرة، كما يجري باستمرار تغيير القيادات بعد ان تثبت فشلها ميدانيا.
ماذا ينتظر البلاد؟
بالرغم من ان المؤشرات الحالية تشهد صعوبات كبيرة وتداخلات واسعة لأطراف داخلية وخارجية (دولية وإقليمية) إضافة لتردي امني وخروج مساحات مهمة من البلاد من سيطرة القوات الأمنية العراقية، إلا إن اغلب المحللين السياسيين يكاد يجمعون بان العراق يمر بأخطر وآخر منعطف يهدد وحدته وتماسكه وفيما لو تجاوز هذا المنعطف فانه سينتقل الى مرحلة أخرى مختلفة تماما عما هو عليه الآن، تتسم فيها الأمور بوضوح في الرؤيا السياسية والاستقرار الأمني النسبي وانفراج في الكثير من الأمور الدستورية التي تعتبر شائكة ومسكوت عنها منذ 2003 والتي تفجرت على أعقاب سقوط الموصل ومنها المادة 140.
الى ذلك فان قادة الكتل السياسية قبل غيرهم بدأوا يدركون بان خلافاتهم السياسية الخارجة عن المعقول هي الغذاء الرئيسي لآلة العنف التي تعصف بالبلاد منذ سقوط نظام صدام على أيدي القوات الامريكية عام 2003 كما ان (إستراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب) بما فيها من اصلاحات سياسية واقتصادية وأمنية هو ما تحتاجه البلاد، ولذلك فهم بحاجة الى ادراك اهمية التصالح مع بعضهم وقيامهم بمهامهم الدستورية والقانونية بعيدا عن التشكيك والتهاتر السياسي، وبناء جسور ثقة حقيقية غير قائمة على تبادل المصالح الحزبية فقط بل عليهم النظر بمستوى بلادهم وسعة قواعدهم الشعبية وعلاقتها مع الطوائف الأخرى على أساس المواطنة وضمن مبدأ الحقوق والواجبات، ثم عليهم التوجه لإقامة دولة المؤسسات الحقيقية وتفعيل مبدأ فصل السلطات بشكل جدي ومنح القضاء استقلاليته دون زجه في التهاتر السياسي ومحاولة الضغط عليه لتصفية الخصوم او إخضاعهم.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث/المنتدى السياسي
مقالات اخرى للكاتب