لم يشهد عراق ما بين النهرين منذ أعوام، بل منذ قرونٍ، ما تعرّض له في أكثر صفحاته قتامة، بين 10 حزيران و6 آب 2014 ولغاية الساعة، حين سطا ما يُسمّى بالدولة الإسلامية "داعش" على مدينةالموصل ولاحقًا على أراضي مناطق سهل نينوى، المشهودة بتمركز المسيحيين فيها منذ أواسط القرن الثالث الميلادي، أو نحو ذلك، أي قبل ما يربو على 18 قرنًا خلت. وإذا كان صراعُ المسيحيين في بلاد ما بين النهرين لم يخلُ من اضطهادات ممنهجة وقاسية أحيانًا، لاسيّما من أقوام الوثنية والمجوسية التي كانت ضاربةً أطنابَها في منطقة البداوة العربية وما جاورها في بلاد فارس التي شهدت جولاتٍ من الكرّ والفرّ في حروبٍ بين البلدان المجاورة بسبب التبعية لبيزنطة أو لبلاد فارس، إلاّ أنَّ علاقاتها مع المسلمين الفاتحين الجدد للمنطقة بالسيف، لم تعتورها أزماتٌ مستفحلة، بسبب من رؤية منطقية وضعية في تلك الحقبة حيث رأى المسيحيون في الفاتحين الجدد محرّرين أزاحوا عن كواهلهم أوزار الممالك العاتية التي كانت تستهين بمقدّساتهم وتستبيح مناطقهم وأموالهم وأعراضهم وتحاول النيل من ديانتهم والقضاء عليها.
إلاّ أنه، وبسبب قلة وعي وعدم انفتاح بعض الخلفاء والحكام والولاة العرب المسلمين، أحيانًا كثيرة، كانت جموع المسيحيين تتعرّض في فترات متعاقبة من الحكم الإسلامي، لأعمالٍ لا تتسم بالمرونة والفطنة والحكمة والتسامح، تبعًا لتفاسير وفهم واستيعاب بعض هؤلاء، لجوهر العلاقة المرسّمة في قرآن الإسلام إزاء المسيحيين وغيرهم من مختلفي الأديان الذين كانوا في ذمّتهم وتحت حمايتهم. فوجدت فترات قاسية وسلبية، إلى جانب أخرى مزدهرة من العلاقة بين الطرفين، وصلت لحدّ الاندماج في المجتمع والتعايش في مفردات الحياة اليومية بكل تفاصيلِها، بحيث صار عامة الناس، ولاسيّما طبقة الدواوين في دور الولاية، يسلّمون على بعضهم بالسريانية ويقولون "بارخمور" أي "بارك يا سيّد"، حين اللقاء. وهذه عبارة يستخدمها المسيحيون في طقوسهم السريانية الشرقية والغربية للتحية، على السواء!
وإذا كانت كنيسة "كوخي" في منطقة قطيسفون (المدائن الحالية) تُعدّ أقدم كنيسة تأسست في العراق في حوالي منتصف القرن الأول الميلادي، على يدي مار ماري ومار أدي، تلميذي مار توما الرسول الذي بشّر الشرق وصولاً إلى الهند ومنغوليا، فإنّ سهل نينوى والموصل وصولاً إلى شمال الوطن، كانت قد تنصرت لاحقًا من التاريخ المذكور، وربما في بدايات القرن الثالث أو الرابع بحسب البعض ووفقًا للمعطيات التاريخية التي دوّنت آنذاك، بالرغم من ظهور بوادر مسيحية في نهاية القرن الأول أو بدايات القرن الثاني الميلادي في مناطق الحيرة والكوفة وبحر النجف والأنبار، بحسب آخرين.
ومّما لا شكّ فيه، أنَّ قبائل عربية كانت قد تنصرت في شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين، في الحقبة ذاتها. فمِن رُصافة إلى معّان ومِنْ دمشقَ إلى الحيرة كانت قبائل تنوخ وحمير وتغلب وغسان وبحراء سليح، وبالقرب منها شرقًا: اللخمانيّون، وفي الجنوبِ قبائلُ كلب وأياد وبكر وعِجل وشيبان، كماعندَ جيرانِهم في الشرق والجنوب بَنو طَيّ وتَميم، وفي وسطِ الجزيرة بَنو كندة، وفي الجنوب الأقصى مِنَ الجزيرة بَنو الحارث وعبد القيس وغيرُهم. ومنهم مَن سكنوا العراق بعد السيل العارم الذي ضرب سدّ مأرب باليمن المسيحية عن معظمها. فتمازجوا واختلطوا وكانت لهم ممالكُهم في الحيرة والمناذرة، حيث ساد فيهما العنصر العربي من قبائل عدنان وقحطان والعباد، واشتهر منهم ملوك وشعراء ورجال دين مسيحيون كثر ورؤساء أديرة وأميرات نلن شهرتهنّ في المنطقة، من أمثال هند الصغرى،الشاعرة الفصيحة والحسناء بنت الملك النعمان بن المنذر، التي ترهبت وبنت ديرًا بعد مقتل زوجها على يد والدها في نكاية مدبرة. كما اشتهرت هند الكبرى، بنت الملك الحارث الكندي التي لبست المسوحوبنتْ ديرًا هي الأخرى.
وتشير الكتب أنّ سكان (الحيرة)، كانوا من العراقيين الاوائل الذين اعتنقوا المسيحية النسطورية، وكان فيها كرسي أسقفي مهمّ. فقيل فيهم قومٌ من العباد، وتعني بالآرامية (العابدون أو المؤمنون)،وكانوا يتحدثون الآرامية (السريانية) التي منها اشتقّ العربُ الخطَّ العربي من الخط السرياني. ومن قصورهم السدير والخورنق. أمّا قبيلتُهم، فمِن بني لخم. ومؤخرًا، قامت بعثة آثارية عراقية في كربلاء والنجف بكشف العديد من ديارات المسيحيين في تلك الحقبة، ما تزال آثارُ بعضها ماثلة لغاية الساعة، وهي تدعو الجهات المعنية بالتراث والآثار لإبداء الاهتمام الواجب، لاسيّما وأنها تقع اليوم قريبة من مواقع وحضرات دينية مقدسة بين كربلاء والنجف والأخيضر وبابل والكوفة وما جاورها.
كما، ما تزال أشعارُ بعضهم تحكي قصصًا من الماضي التليد الزاهر بالفصاحة والتغنّي بالحبيبة وحبّ الصحراء والخمر والحبّ العذري. هذا إلى جانب الأقوام السريانية المنحدرة عن الشعوب الآرامية التي كانت تقطن بلاد سوريا وما بين النهرين، من بقايا بلاد آشوروكلدو وبابل. وحينها كانت اللغة السريانية هي اللغة الرسمية ولغة التجارة بين شعوب وممالك المنطقة بأسرها، بضمنها بلاد فارس، قبل أن تستقوي العربية بفعل الفتوحات والغزوات وأعمال القتل والتهديد بحدّ السيف أو دفع الجزية أو الإسلام. إلاّ أنها، مع كلّ هذه التطبيقات الشرعية بحق المسيحيين، سواءً كانت عادلة أم غير إنسانية ومجحفة، لكنها لم تصل إلى حدّ التهجير القسريّ والظلم والقساوة التي أتت بها تنظيمات "داعش " الإرهابية قبل عامٍ في مناطق واسعة، كانت تُعدّ عبر قرون، حصنَ المسيحيين على اختلاف طوائفهم وتكويناتهم. فما حصل في 10 حزيرانو6 آب 2014، لم تصل إليه حتى غزوات طهماسب وهولاكو وجنكيزخان. فالتاريخ يذكر، أنّ رؤساء كنائس ومسيحيين أشراف، كانت لهم امتيازات وعهود وصكوك من خلفاء وحكام وملوك وولاة تجيز لهم ممارسة شعائرهم والتبشير بدينهم والعيش والتنقل بحرية، مقيّدة أو بغيرها! وهذا ما يشيرُ إليه ازدهار الأديرة وكثرة الرهبان والكنائس والمدارس المنتشرة في أغلب مناطق العراق، حيث كانت قبلة الناس في النهل من معارفها وعلمائها ومفكريها ومكتباتها الزاخرة بأندر الكتب وأحسنها في تلقين العلوم والحكمة والتطبيب والفلسفة، وكذا في زرع بذور الفضيلة ومحبة الله والقريب في صفوف الناس.
المسيحيون أمام محنة اليوم
كانت هذه مقدمة تاريخية سريعة، للدخول في فصول حياة الشعب المسيحي المعقدة عبر تاريخ العراق، لغاية قدوم المغول الجدد في 2014، المتمثلين بتنظيمات "داعش" الإرهابية التي ضربت رقمًا قياسيًا في التعسّف والقتل والتنكيل والاغتصاب والسبي والإجحاف في التعامل مع أتباع هذه الديانة المتمدنة المتسامحة التي لم يعرف أهلوها إلحاق الأذى بالآخر، حتى بالأعداء!
كانت المسيحية وإلى سنوات قريبة جدًا، هي ثاني ديانة معترف بها في العراق، من حيث عدد السكان، ولها أربعة عشر طائفة بين كنائس رسولية أصيلة ترقى إلى عهد الرسالة الأولى للحواريين الاثني عشر وتلاميذهم من بعدهم، وأخرى دخيلة انسلّتّ في غفلة من الزمن لأسباب سياسية واقتصادية ومغرضة.إنه وبسبب الأوضاع غير المستقرّة وهول الهجمة الشرسة التي طالت مناطق تواجد المسيحيين في الموصلوسهل نينوى، فقد اضطرّوا للنزوح إلى مناطق أكثر أمنًا، ولاسيّما في كردستان المجاورة. هؤلاء، مثل غيرهم من أتباع الأقليات المضطهدة التي اجتيحت وقُلعت من مناطق تواجدها الأصلية، ولاسيّما أبناء الديانة الإيزيدية، قد اضطروا لمغادرة قراهم وبلداتهم، تاركين فيها كلّ ذكرياتهم وأملاكهم ومزارعهم ومقتنياتهم. فيما غيرُهم، لم يتحمّل وقع الفاجعة وخيبة الأمل والمستقبل القاتم، فآثرَ طلبَ الهجرة بدل الانتظار القاتل والعيش في رزالة ومهانة بمثابة الاستجداء من المنظمات أو الدول التي تترحم مرغمة على تقديم شتى أوجه المساعدة الضرورية لإدامة الحياة، ليس إلاّ. فيما، يسعى غيرُهم أيضًا، من القاطنين حتى في الأماكن الشبه آمنة، ومنها في شمال الوطن أو المدن الآمنة البعيدة عن مناطق العمليات العسكرية، للمغادرة وترك أرض الآباء والأجداد، لأسباب سياسية واقتصادية أو لغيرة، ناشدين الأمن والاستقرار. فقد ملّوا حياة الاقتتال وصفحات الحروب المدمّرة المتتالية والدماء الغزيرة التي نزفها مواطنوهُم وأهلُهم وأحباؤُهم،وتيمّنوا صوب أراضي الاغتراب رغم لوعتها، بسبب فقدان الأمن والأمان واشتداد وطأة الميليشيات وتكرار الجرائم والتهديدات على حياتهم وحياة أسرهم وابنائهم التي طالتهم في جميع أرض الوطن، من دون تمييز أو تحديد.
لقد تعرّض المسيحيون في العراق الحديث إلى مظالم عديدة، منها ما حصل مثلاً، في منطقة سمّيل بمحافظة دهوك، من مجزرة قادها ونفّذها القائد الكردي المعروف بكر صدقي في مطلع آب 1933، بموافقة الطبقة الحاكمة آنذاك. حدث ذلك، ضمن مخطَّط لضرب الروح الوطنيةالصادقة للمسيحيين الاشوريين بالمنطقة من المطالبين بحقوق قومية ووطنية، كشركاء في الوطن وليس مواطنين من الدرجة الثانية، كما اعتادت الحكومات المتعاقبة التعامل معهم. فقد كانت حركة سياسية وطنية واجتماعية، عُرفت بالحركة الآثورية، وقد أُخمدت في محلّها بكلّ شراسة ووحشية وبفاشستية ملحوظة من قبل القائد الكردّي المغمور الحاقد، لتذكّرَ تمامًا بالعهد الذي كان نقضه الانكليز لأقرانهم وقادتهم من الحركة الآشورية قبلهم في مؤتمر الصلح في باريس في عام 1919، التي عرفت بمعاهدة سايكس بيكو التي تقاسم فيها الحلفاء مغانم الحرب العالمية الأولى.
ومع ظهور الحركة الكردية في شمال العراق في خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات، شهد المسيحيون موجة من الهجرة المؤلمة بعد حرق قراهم من طرفي القتال أو الاستيلاء عليها عنوة، وتيمنوا باتجاه مركز العاصمة بغداد ومدن أخرى كالموصل والبصرة، حيث ظهرت مستوطنات مسيحية جديدة في بعض مناطق هذه المدن ساهمت في إحياء النشاطات المتنوعة في الحياة اليومية. وفي ذات السياق، تعرّضت قرى أخرى محسوبة على شمال الوطن، مثل بلدة "تلكيف"، إلى سيلٍ من هجرة جماعية منظمة باتجاه الأراضي الأمريكية حيث استوطنت وشكّلت جاليتَها الخاصة بها، لها سماتُها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والكنسية على السواء. ولم يشهد العراق سوى فترة ضئيلة من الراحة والهدوء النسبي في سبعينيات القرن الماضي، لتأتي بعده سلسلة الحروب الدامية والمدمّرة التي أنهكت البلاد وقتلت العباد وقوّضت قوة الوطن وقدراته من جميع النواحي. فما كان من الطامحين بملجأ أمين وبراحة بال، سوى تحمّل وزر الهجرة والتيمّن صوب البلدان الأكثر أمانًا، ولاسيّما في أمريكا واستراليا وكندا وأوربا، بدءًا من انتهاء حرب الخليج الأولى والثانية وفترة الحصار الظالم، حتى الصفحة التالية من الغزو الأمريكي في 2003.
وفي أعقاب حرب الخليج الأولى، فقد المسيحون آلاف الشهداء الذين زجّهم النظام السابق مع الملايين من أقرانهم العراقيين من ديانات وأقوام أخرى، في أتون حرب ضروس ظالمة، لا ناقة للعراقيين فيها ولا جمل، حيث خرج العراق مثخنًا بجراح وخسائر لا عدّ لها في البشر والمال والفكر والسلوك والأخلاق. ثمّ جاءت الحرب الثانية بغزوة الجارة "الكويت"، التي أكملت صفحة الانهيار في كل ميادين الحياة وتعطلت عجلة الاقتصاد واشتدت النقمة الدولية على النظام وحكمه. فبدأت مرحلة الصمود العراقي إزاء أشرس حصار اقتصاديّ شهده المواطن العراقي مغلوبًا على أمره، لسنوات عجاف تحمّل فيها وزرًا مضافًا فوق طاقته. وهنا، بدأت الأمور تجري بعكس التيار الطبيعي الذي طبع به العراقيون في تشبثهم بالأرض وحبهم للوطن، بعد اشتداد وطأة القهر والظلم وتقييد الحريات، وبعد أن تزحزحت ثقتُهم بكلّ شيء، إلاّ من طلب ملجأ آمن يقيهم شرَّ الطغيان، فأدركوا أنَّ ما هو قادم سيكون أظلمَ. وفعلاً، صدق حدس الكثيرين وأخفق حدسي الموشَّح دومًا بالأمل وترقب الأفضل في قادم الأيام، ويا ليتني ما فعلتُ!
في عام 2003، يحقق التحالف الدولي، وبمكرٍ ليسَ له مثيل، غايتَه بقلب النظام الدكتاتوري السابق الذي كان جثم على صدور العراقيين سنينًا طويلة وأسرَ الفكر والحريات العامة والخاصة، لكنّه كان يتميز بوجود مؤسسات نظامية للدولة تسيّر الحياة وفق دستور مؤقت وقوانين تحكمها سلطة وأجهزة نافذة. لكنّ الوسيلة المستخدمة في قلب ذلك النظام، كانت خارج الأخلاق، وماكرة بدعم من المجتمع الدولي المنافق، ولاسيّما دول الغرب الديمقراطي التابع لأميركا حتى الساعة. فالنظام المذهبي والطائفي الذي أتى به المحتل ليحكم العراق، قد أضاعه وأضاعَ مستقبلَ أبنائِه وبدّد ثرواته وجعلَه فريسة لعاشقي الفساد بكل أنواعِه، حين أتى بمراهقين في السياسة ليحكموه. فأصبح العراق دولةً بلا قانون، وهو العريق في سَنّ أقدم القوانين، وأصبح بلا حماية وهو حامي البوابة الشرقية، وانقلب مريضًا رزيلاً مهانًا وهو المعروف قوة وجبروتًا ومالاً وهيبةً! كما ساهم قرارُ الحاكم المدنيّ سيّء الصيت بحلّ الجيش ومؤسسات الدولة، بانهيار المنظومة العسكرية والدفاعية، فأصبحت البلاد مضاعًا لكلّ طامع غيور، بلا غطاء جوّي ولا عسكريّ ولا حماية وطنية. كما سهّل ظهور ميليشيات لأحزاب دينية عبثت باستقرار الأمن وعاثت في الأرض والعباد فسادًا، وما تزال الحالة مستمرة، بل وأكثر حيث تضاعفت أعداد هذه الميليشيات والأحزاب الصغيرة عشرات الأضعاف، لتصل حدود المائة ونيّف، ومعروفٌ ولاؤُها وتمويلُها!
ولم يلبث أن أكملَ الغربُ الماكر، وعلى رأسه أميركا عدوّة الشعوب الغنية المسالمة، الصفحة السوداء الغادرة، بأخرى مكمّلة لسابقتها باستقدام عصابات داعش الإرهابية المتمرسة والمدرّبة بعلم أجهزتِه وبرعايتِها وبدعمها بالسلاح والمال والبشر، لتكون أداة يتحكم بها في تحريك الممالك والدول والشعوب، وقت الضرورة. والضرورة بالنسبة إليه، كانت بتغيير أنظمة المنطقة وفق منظورتخريبيّ مدمّر كبير يبدأ بالعرق. وما يزال المشروع جاريًا إلى حين بلوغ غايتِه بإجراء التغيير الجغرافي والديمغرافيّ الذي يريده كما خطّط له وفق مصالحه القومية الدنيئة ضمن سايكس بيكو جديد، تمامًا كما حصل قبل مائة عام، عبر سايكس بيكو الحلفاء! وكلّ هذا يسير وفق خطة مرسومة يشترك فيها الكواسر الجدد المدعومون من دول إقليمية، وبمباركة من دول هذا التحالف الذييتحكم اليوم بمصير الشعوب، ولا مِن صادّ أو رادٍّ لعجرفتِه ومخططاتِه الشيطانية. فقد أمّنَ لنفسِه وقوته كي ي تسيّد الساحة الدولية قطبًا أوحدّ من دون منازع!
في 10 حزيران من العام المنصرم 2014، سقطت الموصل بيد ما يُعرف بالدولة الإسلامية "داعش"، بالطريقة المريبة التي عرفها الجميع، ضمن مؤامرة تنمُّ عن اتفاق سياسيّ، وبمباركة من التحالف الدوليّ ودول إقليمية وسياسيين شركاء في الجريمة. وحينها دبّ الخوف في صفوف البشر، ولاسيما أبناء الأقليات، الحلقة الأضعف في النسيج العراقيّ المتهالك. وفي غضون سويعات، بدأ سيل النزوح، وسرعان ما اشتدّ بعد أيام،إثر إنذارٍ من عناصر الدولة الإسلامية للمسيحيين وأبناء الأديان المختلفة عن الإسلام، تمهلهم بدفع الجزية، أو ترك الديار أو اعتناق الإسلام أو مصيرهم القتل! أية محنة هذه، التي تطرد أناسًا آمنين أصلاء من ديارهم وتخرجهم من مدنهم وقراهم قسرًا!
وهكذا تخلو مدينة الموصل المعروفة تقليديًا بفسيفسائها الدينية والعرقية، من مسيحييها لأول مرة في التاريخ، وتخرس أجراسُ قبابِ كنائسها التي عانقت مآذن الحدباء عبر القرون المنصرمة، وتخلو كنائسُها من مصلّيها لأول مرّة في التاريخ. فمَن سيصلّي لكَ يا عراق!
ثمّ تتسع المساحة لتشمل قرى سهل نينوى الآمنة عبر السنين، في 6 آب 2014، بعد انسحاب قوات البيشمركة الكردية التي كانت قد احتلّت تلك المناطق منذ السقوط في 2003، وتتنازل عنها لداعش بكل سهولة، نكاية بالحكومة المركزية التي ساومتها نتيجة لضعفِها بعد حلّ الجيش وتعرّض مؤسساتها للنهب والسلب والمساومة والمحاصصة في كلّ شيء، إلا من حصة الأقليات التي هُمّشت لغاية الساعة ونُظر إليها بدونية وبمواطنية من الدرجة الثانية والثالثة. فعمّت الفوضى وتراكض الأهالي في ليلة سوداء لم يستطيعوا لملمة حاجاتهم، بسبب عدم تصديقهم لما حدث وبتلك السرعة، بالرغم من التعهدات التي كانت قطعتها حكومة الإقليم بالدفاع عن مناطق السهل وبوعدها بأنّ المصير واحد! لكنَّ"حسابات البيدر غير حصاد الحقل".
مستقبل غامض ومصير مجهول
مع تسارع الأحداث وتباطؤ العمليات العسكرية في مواقع الصراع مع تنظيم "داعش" الإرهابي الدوليّ، المسلّح دوليًا وإقليميًا ولوجستيًا، يجد الفرد المسيحي، وأنا منهم، أمام محنة لا يُحسد عليها، تمامًا مثل أخيه الإيزيدي الذي فقد الدّين والعرض والمال وصارَت حرائرُه تُباع وتُشترى في سوق النخاسة وتُغتصب فتياتُه ونساؤُه أمام انظار المجتمع الدولي المتفرّج. وكأنّ الأملَ بالعودة إلى الديار، أصبَح في خبر كان، في الأقلّ، خلال السنوات الثلاث القادمة، على أقلّ تقدير. إذ نحن اليوم، أمام معطيات معقدة لا تبشّر خيرًا بسبب رغبة الحلفاء بتغيير معاهد سايكس بيكو السابقة التي كانت قسّمت دول المنطقة إلى مغانم، من خلال رسم سياسة دولية بجغرافيا وديموغرافيا جديدتين. وما يؤكّد طول المعاناة واستمرارها لسنوات قادمة، ما يصدر من أفعال وتحرّكات مشبوهة وتصريحات وتسريبات من سياسيين ومحترفي السياسة ومحلّلين. وآخرُها ما صدر عن وزير الدفاع البريطاني "فالون"، الذي أشار بصريح العبارة، أنه "لا يمكن وضع سقف زمني للعمليات العسكرية في العراق، بسبب الإمكانات الهائلة لما يُعرف بتنظيم داعش من موارد واتصالات ودعم لوجستي". وهذا ما كان تحدث عنه السفير الأميركي بالعراق في جلسة خاصة عقب قدوم مسلّحي داعش، حيث أشار أنّ الأوضاع ستبقى على وضعها لغاية عام 2018! كما أنَّ طريقة سير العمليات العسكرية في مواقع القتال ضدّ هذا التنظيم، تؤكّد عدم رغبة التحالف الدولي والأسياد، بالقضاء عليه، وإنّما ينوي تحجيمَه وإدامة تمويلِه وإطالة بقائه واحتلالِه، لأغراض ومصالح لا يكشف عنها هؤلاء. ففي أيدي التنظيم، موارد نفطية ومعدنية وتجارة بشرية ينتفع منها الأسياد وموالوهُم وشركاؤُهم في إطالة أمد المحنة.
وإزاء إطالة هذه المأساة واشتداد قسوتِها على النازحين والمهجّرين، لم تنجح أية جهة، مرجعية كنسية أم أحزابًا سياسية، أنْ تسمو وتجهد للتخفيف من وطأتها على أتباعهم. فالمحنة كبيرة والمحيط واسع والموارد في تناقص! فمازال جلُّ الناس الذين فرّوا بجلدهم من أمام العصابات الإرهابية المسلحة في سهل نينوى والموصل يعتمدون في حياتهم وعيشهم اليومي على ما يُقدّمُ لهم من مساعدات لسدّ الرمق بمذلّة. فيما الأمل بعودة قريبة، أصبحت في خبر كان، على المدى القريب في أقلّ تقدير.
لذا، كان لابدّ من التفكير بإيجاد مخرجٍ للمـأساة والاستعداد للمشاركة في عملية تحرير المناطق المحتلّة، كشركاء ندّيين في الأجهزة الأمنية، سواء في المركز أو في الإقليم، وعدم ترك الأمور على الغارب وبيد مَن لم يستطيعوا حمايتها من الجهتين المعنيتين. فهذه الفعلة، ينبغي أن تكون درسًا للسياسيين ممثلي الشعب المسيحي ولرجال الكنيسة الذين، في حالة استمرار نزيف الهجرة، سيصبحون يومًا بلا مؤمنين وكنائسُهم ستفرغ وقبابُها ستزول مع توالي الأيام وتتحولّ مآذن وحسينيات وما أدراك ما غيرُها.
وهذا ما حدا بجهات مسيحية، بالبحث عن تشكيل قوة مسلّحة مدرّبة، تكون قادرة على حمل السلاح والدفاع عن الأرض ومسكِها في حالة تحريرها، إن شاء الله، ولتبقى مثل هذه القوة ثابتة ضمن المؤسسة العسكرية الوطنية، ويتم تعزيزُها لاحقًا بما تحتاجُه كي تذود عن بلداتها وتحمي الشعب والأهل والعرض من أي اعتداء لاحق، بعد التحرير. هناك اليوم، عناصر مسيحية تتدرب في مناطق متعددة وتحت إشراف جهات مختلفة ومتباينة في الهدف، بعضُها تابعة لأحزاب في السلطة، وغيرُها تحت إشراف حكومة المركز، وأخرى تابعة للبيشمركة والأسايش الكردية في شمال الوطن في الإقليم. وهذه قد لا تتجاوز أعدادها تعداد لواء، بالرغم من أنّ الحاجة تشير إلى لواءين أو ثلاثة في أبسط تقدير. وهناك، عناصر مسلحة تتلقى تدريبًا خاصًا، وهي تابعة لأحزاب قومية مسيحية تسعى لخلق نوع من الاستقلال الذاتي غير الخاضع لأجندات أحزاب في السلطة أو في الإقليم. وهذا ما يحتاجُه المكوّن المسيح، إنْ أراد خلق كيان سياسيّ واجتماعيّ قويّ مستقلّ ينعم باحترام القوى السياسية وينال دعم المجتمع الدولي. ذلك لأنّ تبعية عناصر مسلحة مسيحية لحزب معين أو جهة دون أخرى، ستدخله في خانة الميليشيات السائبة التي تنتشر اليوم بكثافة ويطغى تأثيرُها على عمل المؤسسات العسكرية الرسمية الوطنية. وهذا ما نخشاه جميعًا!
وجودٌ على المحكّ
إمّا أن نكون، أو لا نكون، وتُطوى صفحة المسيحية في العراق، ولاحقًا في المنطقة!
في عام1920، أي مع تاريخ تأسيس الدولة العراقية كانت تقديرات نفوس المسيحيين تشيرُ إلى بلوغ تعدادهم بين- 3,5) 5%( من عدد سكان العراق الذين كانوا يبلغون خمسة ملايين نسمة مقارنة مع أعدادهم في القرن السابع الميلادي مثلاً، حيث كانوا يشكلون حوالي نصف سكان العراق، بحسب بعض الباحثين. فيما تشير أعدادُهم في ثمانينات القرن الماضي، إلى ما ينيف عن مليون ومائتي ألف نسمة أو نحو ذلك، بحسب التقديرات، حيث لم تكن الدولة العراقية آنذاك، تنشر بيانات تفصيلية دقيقة عن الإحصاءات التي كانت تجري لأسباب سياسية بحتة. أمّا اليوم، فقد تناقصَ العدد بحسب مراقبين ومصادر كنسية مقرّبة، إلى ما دون الثلاثمائة ألف نسمة، في ظلّ الظروف القاسية من التهجير القسري وأعمال الطرد والتهديد التي طالت المسيحيين، ليسَ في الموصلوبلدات وقرى سهل نينوى فحسب، بل في مدن غيرها، بسبب سيطرة "داعش" على مناطقهم واستيلاء مسلحيها على أموالهم وأملاكهم وخروجهم من ديارهم بثيابهم هاربين بجلدهم من أنياب الكواسر. وبحسب تقديرات كنسية موثوقة، فإنّ أعداد النازحين الذين طُردوا من مناطق تواجدهم من قبل داعش، يُقدرون بنحو 120 ألف نسمة، جلُّهم من بلدة قرقوش (حوالي 60 ألف نسمة) والبقية من الموصل ومن قرى برطلة وكرمليس وبعشيقة وبحزاني وتلكيف وتلسقف وباطنيا وباقوفا وسواها. وما تبقى من المسيحيين، يعيشون في كردستان العراق في محافظات دهوك والسليمانية وأربيل (أكبر تجمّع مسيحي في عينكاوا)، إضافة إلى مدن كبيرة مثل بغداد والبصرة والعمارة والحلة.
لقد رافق هذا الوضع الشاذّ، سلسلة من أنشطة مشبوهة بحق مواطنين آمنين تعرّضوا للتهديد والخطف. كما تعرّض الكثيرون منهم في مناطق متعددة، إلى عمليات تسليب وخطف ومساومة بهدف الاستيلاء على املاك ومحلّات وشركات ومصالح. ومنها، تعرّضُ عدد من النوادي الاجتماعية ومحلاّت بيع الخمور التي يدرها في الغالب مواطنون مسيحيون وإيزيديون، إلى سلسلة من الهجمات الممنهجة على أيدي ميليشيات دينية متنفذة تستقلّ سيارات رباعية تابعة للدولة وتعمل بغطاء حكومي، في محاولة لاستنساخ مؤسسة حفظ النظام في إيران وتطبيق شرع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.وقد ولّدت تلك الهجمات نقمة عارمة في صفوف المثقفين ومقرّبين متنورين في العملية السياسية، الذين رأوا فيها تقييدًا للحريات العامة وانتقاصًا من القيمة الإنسانية. كما لم يتورّع مسؤولٌ محلي متنوّر في أحد الأحزاب الدينية المقرّبة من السلطة، بالكشف عن عمليات فساد وتجاوز على أملاك العراقيين المسيحيين في بغداد، مؤكداً أن 70 في المائة من منازل المسيحيين المهاجرين خارج البلاد بعدالاحتلال، تم الاستيلاء عليها من قبل جهات متنفذة مشاركة في السلطة لم يسمّها،حيث قامت بتزوير سندات العقارات لغرض بيع تلك الدور بأسعار خيالية. وتحدّى المسؤول المذكور، أي مسؤول في الحكومة أن يظهر ويتحدث في مثل هذه الملفات التي يعتريها الفساد، مصرّحًا أن من يقوم بهذه الفعال لا يقلّ في جرمه عمّا يقترفه داعش من أعمال قتل وسلب وتهجير وسبي واغتصاب وما سواها.
إن ظاهرة الهجرة المستمرة باتجاه خارج الوطن، بدأت تقضّ مضاجع المراجع الكنسية والوطنية معًا، بسبب الآثار المدمّرة التي ستلحقها بالهوية الوطنية الجامعة، في حالة استمرار نزيفها من دون حلول وعلاجات. فالمسيحيون يشكلون الزمرّدة الزرقاء وسط الفسيفساء الجميلة المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وواحدة من أجمل زهور حديقتها الغنّاء التقليدية، على الإطلاق، لأسباب يعرفها القاصي والداني، منها حب الوطن والولاء لأرضه وحضارتِه، وكفاءتُهم في العمل والعلم والأدب والحرفية، وكذا في الأخلاق وفي الفضيلة السمحاء ومحبة الآخر مهما اختلف عنهم في الدين أو القومية أو الفكر أو اللغة أو التوجهات. لكنّ الحياة، عندما لا تستقيم، أو حينما تتجه من سيّء إلى الأسوأ منذرة بقاتم الأيام، فهي لا تستدعي بعدُ البقاء والتضحية. فالوطن الذي لا يحترم أبناءَه، لا يستحق مَن يسعى ويعمل للتضحية في سبيلِه. وكذا الأرضُ التي ترفض مقاسمة مواطنين نجباء وطنيين في الشراكة العادلة والمتساوية بالوطن، حريٌّ بالإنسان أن ينفض حتى الغبارَ العالقَ في الخفّ الذي يدوس عليها وينهي معها صلتَه، ولو مرغمًا!
هكذا، يبدو على السياسيين الجدد، ان يصوّروا العراق من دون فسيفسائِه التاريخية التقليدية الموسومة بمختلف المكوّنات الأصيلة المتعايشة على مرّ الدهور والسنين. فهؤلاء، يفعلون وينفذون ما لا يقولون ويصرّحون به من كون المسيحيين وبقية الأقليات من الشعوب الأصيلة. وحين يحين وقتُ تقاسم الكعكة والاستحقاق الوطني، يريدونها لهم ولخلاّنهم وأتباعهم في الدين والمذهب والحزب والجماعة، دون غيرهم. هذه هي الحقيقة، ومَن يقول بغير ذلك، كاذبٌ ومنافقٌ ولاعنٌ نفسَه ومَن يستظلُّ بظلِّهِ. فلم يحاول السياسيون الجدد القادمون على الدبابات الأمريكية أو الباقون تحت حمايتها، رأبَ الصدع في الحياة السياسية للعراقيين جميعًا، وقد انسلّ العديد منهم خلسة وفي جنح الظلام للقفز على السلطة من دون استحقاق بحجة المحاصصة البغيضة التي شلّت قدرات الشعب والدولة على السواء. وبذلك تكون عناصر خارجية دخيلة على العملية السياسية والإدارة الرشيدة، لا تمت بصلة لثقافة السكان الأصليين وتكافلهم الاجتماعي وتعايشهم السلميّ عبر الأزمان والسنين، قد دخلت المعترك من الشبّاك بدعم من مؤسسات ومرجعيات سياسية ودينية متنفذة. بل لم يقدّمالعديد من هؤلاء الحكام الجدد، الطامعين بالجاه والمال والسلطة واللاهثين وراء السحت الحرام والمنغمسين حتى الأعناق في الفساد المالي والسياسي والإداري، أي نوع من الحماية والدعم والتعويض ضدّ ما تعرّض له المسيحيون وسواهم من الأقليات ومن العراقيين عمومًا،جرّاء عمليات إجرامية ممنهجة أو عن أعمال عنف وتهديد وخطف وقتل وتمثيل وتعذيب وتهجير ونزوح حصلت وما تزال. بل هناك من استغلّ الفرصة للمتاجرة بآلامهم ومآسيهم عبر سرقة ما منّت عليه الدولة والمنظمات الإنسانية ودول تحاول التخفيف عن الجرح الثخين الذي سببته عندما وافقت وشاركت في جريمة التغيير الدراماتيكي وغزو البلاد في 2003، وما بعدها وما تلاها من صفحة استقدام الدواعش، وما نالته مختلف التنظيميات المسلحة من دعم لوجستي وإمداد وغض النظر عن جرائم إبادة وأعمال عنف غير إنسانية بحق ناسٍ آمنين.
وإذ ننسى، فلا ننسى، حادثة كنيسة سيدة النجاة في 31 تشرين أول 2010، التي راح ضحيتَها الأبرياء من مرتاديها من المصلّين لأجل العراق وإحلال السلام فيه، وكنتُ أنا شخصيًا من ضمن جرحى تلك الحادثة وما أزال أعاني من آثارِها لغاية الساعة. فقد قصمت تلك الحادثة ظهر المسيحيين عامةً، ومعها بدأت صفحة جديدة ومتسارعة من الهجرة وترك الديار لذئاب العصر الممسوحين بسواد الدين وشعاراته السوداء الرافضة لأي مختلف عنها في الفكر والقول والفعل، أمرًا بما تدّعيه بحاكمية الله على الأرض وأية حاكمية! فمتى وهل كان الله خالقُ الكون والبشر وما فيهما وبينهما بحاجة للدفاع عن حكمه العادل يوم الدّين؟؟؟ كما لا يمكن نسيان تعرّض قساوسة للخطف والقتل والتمثيل بجثثهم، إضافة لتعرّض أكثر من خمسٍ وستين كنيسة لهجمات منسقة، وبعضُها كان يجري بتنسيق من جهات وأجهزة أمنية عسكرية، بعض أجنحتها تابعة للدولة وأحزابها الحاكمة.
إزاء ذلك كلّه، ومع اشتداد وطأة الحياة بكل تفاصيلِها وقساوة أيامها الأخيرة على العراقيين، أدرك المسيحيون مثل غيرِهم من أبناء الوطن، أن الحياة في العراق قد أصبحت جحيمًا لا يُطاق، شاءوا أم أبوا، وأنَّ تسونامي النار الحمراء الآكلة قادمة، لا محال. لذا بدأ العديدون، بلملمة الجراح ما أمكن، عبر اللجوء لطَرقِ أبواب الهجرة في بلدان الاغتراب المتنوعة، عبر منظمات دولية أو جمعيات أو بمساعدة الأهل والأقارب، إضافة إلى توجّه آخرين لتقديم اللجوء الإنساني في بلدان فتحت أبوابَها لهم لانتشالهم من معاناتهم الإنسانية لحين استتباب الأمور واستقرار الأوضاع، ما شاء القدر.
إنّ الجريمة الكبرى التي اقترفها التحالف الدولي بالتعاون مع أجهزة الحكم في العراق ومع بعض السياسيين المشتركين في المؤامرة الدنيئة للصفحة الداعشية، لن ينساها التاريخ، بل ستكشفها الأيام والسنوات القادمة بكلّ تفاصيلِها. فهذه لا تقلّ في بشاعتها عن جرائم الحربين الكونيين الضروسين اللتين شهدهما القرن الماضي وراح ضحيتهما الملايين من البشر الأبرياء. وها هو التحالف الدوليّ، بتأخره في الصدّ والقضاء على وجود مختلف التنظيمات المسلحة، وعلى رأسها داعش الإرهابي، الذي تسابق وخطّط له للقدوم إلى المنطقة، ومنها في سوريا والعراق، يزيد من عتوِّه وقهرِه لأتباع الأديان القليلة العدد من أبناء الأقليات المقهورة، كي ينفّذ مشروعَه في إجراء تغيير ديمغرافيّ على مناطقهم، وتقسيم الأرض على أساسٍ مذهبي طائفي انفصاليّ، كي يستطيع التحكم بسهولة أكبر على منابع الثروات الغزيرة، التي يبدو أنَّ أصحابَ الأرض لا يستحقونها!
أخيرًا، وليسَ آخرًا، لا بدّ أن نقف حول ما يُحاك في الدهاليز من مشاريع إعادة توطين المهجّرين، وتغيير مناطقهم ديمغرافيًا، ومنهم المسيحيون، وطرح مقترحات بتوطينهم في مناطق جديدة في كردستان، تنفيذًا لمخطط التغيير الديمغرافيّ، بحسب مشروع "بايدن"، سيّء الصيت. هناك مؤتمرات ولقاءات واجتماعات على أصعدة عديدة قائمة على قدمٍ وساق، يتسارع منظموها لتبييض صفحة الجانب الكردي في التعاطي مع ملف المهجرين والنازحين، مستغلّين أوضاعهم المأساوية في الترويج لمشروع الاندماج والالتحاق بالدولة الكردية المستقلة العتيدة، لغايات وأهداف تخدم الأجندة الكردية وتوسع الهوّة مع الحكومة الفيدرالية باتجاه دعم مشروع تقسيم البلاد على اساس عرقيّ وطائفي. فيما تحاول الإدارة الكردية، وبالذات الحزب الديمقراطي الحاكم، الضغط باتجاهات عديدة، أهمها ثلاث:
- أوّلها، مجابهة الحكومة المركزية بفرض أجندتها ومشروعها، مستغلةًّ انشغالَها في محاربة داعش والنزاعات السياسية بين الفرقاء الشركاء وضعف مؤسساتها العسكرية ورخاوة اقتصادها الهش بسبب الفساد الإداري والمالي وهبوط أسعار النفط؛
- والثاني، باتجاه استقاء دعم دولي لمشروع الاستقلال المدعوم أساسًا من الغرب والذي ينتظر إشارة من الإدارة الأمريكية لتمريره، ولم يبقى سوى التوقيت؛ وهذا من ضمن مخططه، دمج أراضٍ شاسعة من المتنازع عليها ضمن حدود الإقليم؛
- أما الثالث، فتقف خلفه ماكنة دعائية من عناصر محلية حصلت لها على امتيازات خاصة، ولاسيما من مقامات دينية رفيعة وأحزاب وتنظيمات موالية وممّولة من الجانب الكردي. وهنا، لا تُستثنى مراجع دينية وكنسية خارجية رفيعة تزور الإقليم دوريًا، بحجة زيارة أبناء الجماعة والاطلاع على أحوالهم، بل التفرّج على أوضاعهم المزرية للحصول على أنواعٍ شتى من الدعم المادي والعينيّ من منظمات ودول وأفراد. فما يهمّ بعض هذه المراجع وليسَ جميعَها، ما يصل إلى أيديها من أموال، وليسَ من مشاريع لا يمكنهم الاستفادة من تنفيذها تقدّمها منظمات وحكومات داعمة، كما حصل في وقت سابق من هذا العام لدعوة من أحد البرلمانيين في هولندا، للمشاركة في مؤتمر خُصّصَ لتمويل مشروع بناء 2000 كرفان مؤثث للنازحين. لكن، لا أحد حضر المؤتمر، لكونه لا ينطوي على تسليم مبالغ المنحة والمساعدة باليد، فلا فائدة منه بالتالي!
إنَّ الشدّ والتراخي في الحبل، القائمين بين حكومة المركز من جهة، وحكومة الإقليم في كردستان الماضية في مشروعها الانفصالي، سيفجّر قنابل خطيرة في طول البلاد وعرضِها. فأطماع الإقليم واضحة في خارطته التقسيمية التي ينادي بها بحدودها المرسومة الواسعة. ومؤخرًا، صدر تصريحٌ مؤكِّدٌ لمثل هذه الأطماع من رئيس الإقليم، ينادي ويحذّر من المساس بمناطق واسعة من سهل نينوى، بالإشارة إلى عدم تسليم سنجار مثلاً، وبتحويلها إلى محافظة قادمة ودمجها ضمن أراضي الإقليم. كما صدرت تصريحات مشابهة في أوقات سابقة، بإجراء مماثل حول مصير قضاء الحمدانية وتلكيف وتلعفر. ويؤدي أدوار التهيئة لمثل عمليات الدمج هذه، عناصر مدفوعة الثمن وعملاء محليون وآخرون حصلوا على امتيازات مادية وسكنية ومنح وعطايا غزيرة لأجل دفع التأييد لمثل هذه الخطوة. وهناك رجال دين من مناصب رفيعة ومنخرطون في السياسة وفي الإعلام، ممَن سبق وقدّم الولاء على طبق من ذهب لرئاسة الإقليم، دون استشارة أتباعهم أو التحقق من نتائج مثل هذه الخطوة الارتجالية غير المدروسة، في حالة تحقيقها بهذه الصيغة المشينة. فالدستور، يقضي بالتطبيع والإحصاء ثمّ الاستفتاء لتحديد إرادة المواطنين فيها، وليس بمجرّد تأييد عاطفي.
وبعد، هل يمكن عدّ مصير المسيحيين في مهب الريح، وفق هذه المعطيات الخطيرة وهذه المواقف المتأرجحة وغير السارّة بين الأطراف المعنية جميعًا؟ سؤالٌ، لن تحلّ جزءًا من أسراره، سوى عملية تشكيل مرجعية سياسية مسيحية رشيدة مستقلّة جارية في الوقت الحاضر، تتولى على عاتقها البحث في الحيثيات ودراسة مواقع الخلل وتهيئة الأجواء لإشاعة روح المواطنة في مجتمعاتهم وما حولهم، وتوجيه عامة الناس نحو الصالح الواقعيّ المقبول لهم ولجماعاتهم بطوائفها الأربعة عشر التي تعاني نزاعات جانبية، هي الأخرى، في الزعامة والتسمية والتمثيل والتعصّب دينيًا وقوميًا! فالوطن لا يٌبنى وفق أجندات أفراد متعصبة وأحزاب هزيلة ونواب لا يمثلون شعبَهم تمثيليًا حقيقيًا، بسبب صعودهم المشبوه في الانتخابات، كما هي عليه الحال في العديد من الحالات.
سؤالٌ نتركُه للقدر وآليات تنفيذ الأجندات المختلفة لدى أصحاب المصلحة الحقيقية التي تقف وراء هذه التغييرات الدراماتيكية جميعًا.
بغداد، في 5 آب 2015
مقالات اخرى للكاتب