بسرعة فاقت كل التصورات ، باشرت الوزارات والدوائر غير المرتبطة بوزارة بتطبيق سلم الرواتب ( الجديد ) ، حيث بدأ العمل به اعتبار من بداية الشهر الحالي ( 1 / 11 / 2015 ) ، ويعد العمل بهذا السلم من أسرع القرارات التي تم تنفيذها في حزمة الاصلاحات التي أعلن عنها السيد حيدر العبادي والتي تتضمن العديد من الفقرات والمراحل ، والملفت للنظر إن حزمة الاصلاحات التي دعا لها المتظاهرون في تظاهراتهم التي لم تنقطع منذ عشرة أسابيع ولا تزال مستمرة في كل جمعة بما فيها يوم الغد ، لم تشير إطلاقا إلى إصدار سلم جديد للرواتب ، فأول ما دعت إليه التظاهرات هو إجراء حملة وطنية واسعة لمكافحة الفساد واسترجاع الأموال المسروقة ومحاسبة الفاسدين قضائيا وبما يضمن العدالة الاجتماعية ، كما تضمنت التظاهرات مواضيع أخرى تم التصويت عليها من قبل مجلسي الوزراء والنواب ولكنها لم تنفذ بالسرعة التي نفذ بها سلم الرواتب ، بل إن بعضها لم توضع ضمن جداول زمنية للتطبيق وقد صدرت آراء ووجهات نظر متباينة بخصوص مدى مطابقتها للصلاحيات وغيرها من الأمور .
ورغم إن سلم الرواتب الذي دخل إلى حيز التطبيق فعلا طرحت بخصوصه العديد من الملاحظات ، ومنها مدى مطابقته للصلاحيات الممنوحة لمجلس الوزراء بنص المادة 3 من القانون 22 لسنة 2008 المعدل ، وإصرار بعض أعضاء مجلس النواب في تصريحاتهم الإعلامية على عرضه في جلسات مجلس النواب لإبداء الرأي فيه أو اتخاذ القرار المناسب بشأنه عند إحالته من قبل مجلس الوزراء كمشروع تعديل للقانون ، ألا انه مر عبر القنوات الرسمية للحكومة إلى الجهات التنفيذية للعمل به وابتداءا من 1 / 11 وليس من بداية السنة القادمة ، فقد اعتاد العراقيون أن يشهدوا تغييرات في مدخولاتهم ( رواتب أو مخصصات ) من بداية السنة المالية ثم يركضون وراء ( الفروقات ) ، ولعل الاستثناء الزمني بالتطبيق في هذا السلم الذي خالف القاعدة قد تم لان خزينة الدولة سوف لا تتحمل أية أعباءا مالية ، لان السلم الجديد يأخذ من (أغنياء )الموظفين ما لا يزيد عن 38 ألف دينار شهريا ليعطيها إلى أفقر الموظفين بحيث يصل راتب الحد الأدنى للموظف الحكومي 170 ألف دينار شهريا ، وقد تضمن السلم أيضا استثناءا آخرا وهو تغيير القانون ليس بقانون وإنما بجدول مرفق بكتاب .
لقد رافق الإعلان عن انتهاء أعمال اللجنة التي كلفها السيد رئيس مجلس الوزراء لتحقيق العدالة والتوازن في رواتب الموظفين وما أعقبها من تصريحات وتسريبات ، تنظيم احتجاجات سلمية لدى شرائح تمثل الموظفين العاملين في الأجهزة الحكومية ومنهم الأطباء وأساتذة الجامعات والعاملين في الكهرباء والنزاهة وغيرها من القطاعات ، ولم تتوقف تلك الاحتجاجات إلا عند ظهور الدكتور العبادي في إحدى الفعاليات وهو يعلن إن التغييرات تتطرق إلى الرواتب ولم تمس المخصصات , وهو ما ولد نوعا من الشعور بالارتياح بان الحكومة ليست من نواياها أن تحدث ضررا بمعيشة العوائل العراقية إذ لا يخلو بيتا من وجود موظفين يعيلون عوائلهم ، وكان العديد من الموظفين يعولون على تأجيل الموضوع إلى وقت آخر من باب تهدئة النفوس بعد ردة الفعل التي شهدها الشارع العراقي والذي استدعى تدخل المرجعية العليا بالدعوة لإعادة دراسة الموضوع وعدم المس برواتب ومخصصات الكفاءات الوطنية والعراقيين ، وحسنا عملت الحكومة من خلال رئيس مجلس الوزراء والوزراء والمستشارين عندما اخذوا يطمأنون الناس بان لا ضرر سيقع بمصدر معيشتهم .
وبصراحة نقول إن تطبيق سلم الرواتب وعدم إعادة النظر فيه وعدم عرضه على مجلس النواب والإصرار على تطبيقه من بداية الشهر الحالي ، قد أعاد القلق لدى شرائح من الموظفين فبعضهم ( يعتقد ) بان التطبيق سيبدأ بمراحل تبدأ الأولى بالرواتب ثم تشمل المخصصات ثم ينتقل التطبيق إلى رواتب المتقاعدين ، والبعض يروج بان القضية قد تحولت إلى استخدام تكتيك مبرمج ، باعتقادهم إن الحكومة امتصت غضب الشارع عندما قالت إن الموضوع يتعلق بالرواتب وليس المخصصات فتوقفت الاحتجاجات التي تزامن فتورها مع انشغال الكثير بغرق بيوتهم وشوارعهم ، وهناك من يردد بان المرحلة التالية بتخفيض المخصصات أو إلغاء بعضها سيأتي في ( الحزمة ) التالية التي يتمنون أن تنجلي ولا تأتي مع الأمطار أو بدونها ، ومن المؤكد إن الشعب يستشعر الحرج الذي تمر به الدولة بسبب تدهور أسعار النفط وما يتطلبه إتمام المعارك من تكاليف عالية ومتطلبات إغاثة النازحين الذين يزيد عددهم عن 3 ملايين ، ولكن المطالبين بإبقاء الرواتب والمخصصات كما هي عليها لا يعود لعدم وطنيتهم أو ( أنانيتهم ) ، وإنما لغرض مجاراة مستلزمات الحياة الصعبة ، فقد تكون المخصصات التي حصلوا عليها ( بجرة قلم ) ولكنهم نظموا معيشتهم على ما يحصلون عليه بموجب قوانين صدرت بهذا الخصوص .
ومن المؤكد ، إن الاحتجاجات في الجامعات والشوارع وأمام مقرات الوزارات لم تكن مناظر مسرة للجميع ، ولكنها الوسيلة السلمية والتي ضمنها الدستور للتعبير عن الشعور بالظلم عند اقتطاع نسبة مهمة من الرواتب والمخصصات في الشهر التالي دون أي ذنب ارتكبه الموظفين ، وفي الوقت الذي يقدر فيه الجميع المساعي التي تبذل لإعادة النظر في هيكلة الاقتصاد الوطني وتنويع مصادر الدخل والإيرادات والاعتماد على الثروات المحلية وليس النفط فحسب وولوج مصادر آمنة لتمويل عجز الموازنة لحين تعافي الاقتصاد ، فان المخلصين يتمنون أن لا تعاد تلك المناظر المحزنة في الاحتجاج عند الإصرار على تخفيض الرواتب والمخصصات ، فالجميع يتمنى أن يتآزر الجميع للاشتراك في تحقيق انجازات وطنية نجتمع عليها بالإيجاب وليس نحتج عليها بالضد فقد مللنا جميعا الرفض والشجب والاستنكار ويجب أن تحين الفرص لتحقيق المشتركات ، وستبقى واحدة من اكبر الأمنيات لدى الغالبية الكبيرة من العراقيين أن لا يكون هذا العدد الكبير من الموظفين عبئا على الموازنة ، فالإدارة الكفوءة والفاعلة بإمكانها أن تحول هذه الثروات البشرية الهائلة إلى قوة كبيرة للبذل والعطاء وتحقيق الإيرادات بالإنتاج ، نقول إدارة ناجحة وليست من المحاصصة وخارج الاختصاص .
مقالات اخرى للكاتب