مركز البيان للتخطيط والدراسات
مارتن وولف، محلل اقتصادي وكبير المعلقين الاقتصاديين في صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية.
بينما نشهد نهاية العولمة، هل ستحدد الحمائية والنزاعات المرحلة المقبلة؟
ليس صحيحاً أن البشرية لا تستطيع التعلُّم من التأريخ، بل في وسعها ذلك، فقد استفاد الغرب من دروس فترة المظلمة بين عامي 1914 و1945، ولكن يبدو أنهم قد نسوا تلك الدروس الآن، فنحن نعيش مرة أخرى في عصر القوميات المتطرفة والكراهية تجاه الأجانب، وقد تحولت آمال بناء عالم جديد من الوئام والديمقراطية اللتين أثارهما افتتاح السوق من الثمانينيات وانهيار الشيوعية السوفيتية بين عامي 1989 و1991 إلى رماد.
ما الذي ينتظر الولايات المتحدة في المستقبل -الخالق والضامن للنظام اليبرالي بعد الحرب- التي سيحكمها رئيس ينكر التحالفات الدائمة، ويحتضن الحمائية، ومعجب بالطغاة؟
ما الذي ينتظر الاتحاد الأوروبي في المستقبل، الذي يفكر في صعود “الديمقراطية غير الليبرالية” في الشرق، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وإمكانية انتخاب مارين لوبان في الرئاسة الفرنسية؟
ما الذي ينتظر روسيا بقيادة فلاديمير بوتين الذي يمارس نفوذاً متزايداً على العالم؟
ما الذي ينتظر الصين بعد أن أعلنت أن شي جين بينغ “الزعيم الأساس” في الدولة؟
نشأ النظام الاقتصادي والسياسي العالمي المعاصر كرد فعل للكوارث التي حدثت في النصف الأول من القرن العشرين بسبب التقدم الاقتصادي غير المسبوق، والمتفاوت للغاية في القرن التاسع عشر.
حفزت القوات التحويلية التي أطلقها التصنيع الصراع الطبقي بين القومية والإمبريالية، فبين عامي 1914 و1918، نشبت الحرب الصناعية والثورة البلشفية، وأدت محاولة استعادة النظام الليبرالي الذي سبق الحرب العالمية الأولى في العشرينيات إلى حدوث الكساد الكبير، وانتصار أدولف هتلر، وتوسع النزعة العسكرية اليابانية في الثلاثينيات؛ وهذا أدّى إلى خلق الظروف الملائمة للمذبحة الكارثية في الحرب العالمية الثانية، التي تبعتها الثورة الشيوعية في الصين.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كان العالم منقسماً بين معسكرين هما: الديمقراطية الليبرالية بقيادة الولايات المتحدة -القوة الاقتصادية المهيمنة في العالم-، والشيوعية بقيادة الاتحاد السوفيتي، وبتشجيع من الولايات المتحدة، تفككت الإمبراطوريات التي تسيطر عليها الدول الأوروبية الضعيفة؛ مما خلق مجموعة دول جديدة سميت بدول “العالم الثالث”.
بالنظر إلى أنقاض الحضارة الأوروبية والتهديد من الشمولية الشيوعية، لم تستخدم الولايات المتحدة -الدولة ذات الاقتصاد الأكثر ازدهاراً في العالم التي تمتلك قوة عسكرية كبيرة- ثروتها فقط، ولكن أنموذج حكمها الذاتي (الديمقراطية)؛ لخلق مصدر إلهام ودعم للدول الأخرى، وللقيام بذلك تعلم قادتها بوعي من الأخطاء السياسية والاقتصادية الوخيمة التي ارتكبها أسلافهم بعد دخولهم الحرب العالمية الأولى في عام 1917.
وعلى الصعيد المحلي، أظهرت دول الغرب الجديد بعد الحرب العالمية الثانية التزاماً بإنشاء العمالة الكاملة، وخلق دول تمتع بالرفاه، أما دولياً فقد أشرفت مجموعة جديدة من المؤسسات -صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة (سلف منظمة التجارة العالمية الحالية)، ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوروبي (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)- على إعادة إعمار أوروبا وتعزيز التنمية الاقتصادية العالمية، وكذلك تأسس حلف شمال الاطلسي -جوهر النظام الأمني الغربي- عام 1949، وتم التوقيع على معاهدة روما التي أنشأت الجماعة الاقتصادية الأوروبية -سلف الاتحاد الأوروبي- عام 1957، وجاء هذا النشاط الإبداعي استجابة لضغوط فورية، ولاسيما من البؤس الاقتصادي الأوروبي بعد الحرب، وتهديد الاتحاد السوفيتي بقيادة ستالين، ولكنه يعكس أيضاً رؤية عالم مبني على مزيد من التعاون.
من النشوة إلى خيبة أمل:
يمكن تقسيم فترة ما بعد الحرب اقتصادياً على فترتين: الأولى: الفترة الكينزية التي شهدت لحاق اقتصاد الأوروبيين واليابانيين بالركب، والأخرى: فترة العولمة الموجهة نحو السوق، التي بدأت مع إصلاحات دنغ شياو بينغ في الصين منذ عام 1978، والانتخابات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة لمارغريت تاتشر ورونالد ريغان في عامي 1979 و1980 على التوالي.
وقد انمازت هذه الفترة الأخيرة أنها شهدت الانتهاء من جولة أوروغواي للمفاوضات التجارية عام 1994، وإنشاء منظمة التجارة العالمية عام 1995، وانضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، وتوسيع الاتحاد الأوروبي ليشمل أعضاء سابقين في حلف وارسو عام 2004.
انتهت الفترة الاقتصادية الأولى بتضخم كبير في السبعينيات، وانتهت الفترة الثانية بالأزمة المالية الغربية بين عامي 2007 و2009، وبين هاتين الفترتين حدثت مجموعة من الاضطرابات الاقتصادية وعدم اليقين، كما هو الحال الآن مرة أخرى، وكان التهديد الاقتصادي الرئيس في الفترة الأولى من المرحلة الانتقالية متمثلاً بالتضخم، أما هذه المرة فقد تمثل هذا التهديد بانخفاض معدل التضخم.
أما من الناحية الجيوسياسية، فتقسم مرحلة ما بعد الحرب على فترتين: الحرب الباردة التي انتهت مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، وعصر ما بعد الحرب الباردة، وقد خاضت الولايات المتحدة حروباً كبيرة في كلا الفترتين: الحرب الكورية (1950-1953)، وفيتنام (1963-1975) خلال الفترة الأولى، وحربي الخليج (1990-1991 و2003) خلال الفترة الثانية، إلَّا أنَّ أي حرب لم تندلع بين القوى الكبرى والمتقدمة اقتصادياً، على الرغم من أن هذا كان وشيكاً جداً في أثناء أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962.
انتهت الفترة الجيوسياسية الأولى من فترة ما بعد الحرب بخيبة أمل للسوفييت والنشوة للغرب، أما اليوم فالغرب هو الذي يواجه خيبة أمل جيوسياسية واقتصادية.
يعيش الشرق الأوسط في حالة اضطراب، وأصبحت الهجرة الجماعية تهديداً للاستقرار الأوروبي، وبدأت روسيا بقيادة بوتين بالمسير، أما وضع وموقف الصين بقيادة شي جين بينغ به يبدو قوياً على نحو متزايد، والغرب يبدو عاجزاً أكثر فأكثر.
تأتي هذه التحولات الجيوسياسية -في جزء منها- نتيجة للتغيرات المرغوب فيها، ولاسيما انتشار التنمية الاقتصادية السريعة في الدول غير الغربية أيضاً كما في عملاقي آسيا الصين والهند، وتعزي بعض التحولات أيضاً لتحولات أخرى ليس أقلَها قرارُ روسيا برفض الديمقراطية الليبرالية واللجوء إلى القومية والاستبداد كونها جوهر هويتها بعد انتهاء الشيوعية، وقيام الصين بالجمع بين اقتصاد السوق مع السيطرة الشيوعية.
زيادة الغضب:
لقد ارتكب الغرب أخطاء كبيرة، ولاسيما قراره بالإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين، ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط تحت تهديد السلاح في أعقاب أحداث 11 أيلول، وفي كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة يُنظر إلى الحرب على العراق على أنها حرب غير مشروعة في الوقت الحاضر، ولم تكن تدار جيداً، وأدّت إلى نتائج كارثية.
لقد تأثرت الاقتصادات الغربية أيضاً، ولكن بدرجات متفاوتة؛ بسبب تباطؤ النمو وازدياد عدم المساواة، وارتفاع معدلات البطالة -ولاسيما في جنوب أوروبا-، وانخفاض المشاركة في القوى العاملة وانخفاض التصنيع، وقد أدّت هذه التحولات إلى آثار سلبية ولاسيما على الرجال غير المهرة نسبياً؛ وبسبب ذلك ازداد الغضب تجاه الهجرة الجماعية، من قبل الجماعات السكانية التي تأثرت سلباً بالتغييرات الأخرى.
وتعزى بعض هذه التحولات للتغيرات الاقتصادية التي كانت إما لا مفرَّ منها وإما بسبب حدوث تطورات مرغوب فيها بشكل سلبي، إذ لا يمكن إيقاف تهديدات العمال غير المهرة بسب تطور التكنولوجيا، ولا القدرة التنافسية المتزايدة للاقتصادات الناشئة، ومع ذلك يتم ارتكاب أخطاء كبيرة في السياسة الاقتصادية أيضاً، ولاسيما الفشل في ضمان تحقيق مكاسب من النمو الاقتصادي وتقاسمها على نطاق أوسع، وكانت الأزمة المالية بين عامي 2007 و2009 والأزمة اللاحقة في منطقة اليورو هي الحدثين الحاسمين في هذه الفترة.
كان لهذا آثار اقتصادية مدمرة، إذ قفز معدل البطالة بنحوٍ مفاجئ، تبعها الحصول على المبالغ المستردة بشكل ضعيف نسبياً، وتعد اقتصادات الدول المتقدمة اليوم أصغر بست مرات مما كانت ستؤول إليه لو لم تحدث الأزمة الاقتصادية.
وقد قوضت الاستجابة للأزمة أيضاً الإيمان بأن النظام منصف، ففي الوقت الذي فقد فيه الناس العاديون وظائفهم أو منازلهم، قامت الحكومة بإنقاذ النظام المالي، وفي الولايات المتحدة حيث تعد السوق الحرة ذات عقيدة علمانية بدا هذا غير أخلاقي بنحو خاص.
وأخيراً، دمرت هذه الأزمات الثقة في كفاءة النخب المالية والاقتصادية والسياسية واستقامتهم، ولاسيما إدارة النظام المالي والحكمة من خلق اليورو.
كل هذا دمر الصفقات التي نشأت عليها الديمقراطيات، التي رأت أن النخب يستطيعون كسب مبالغ طائلة من المال أو التمتع بنفوذ كبير وسلطة ما داموا يسلمون البضاعة، وبدلاً من ذلك توجت فترة طويلة من نمو الدخل بشكل ضعيف لمعظم السكان ولاسيما في الولايات المتحدة بأكبر أزمة مالية واقتصادية منذ الثلاثينيات، أما الآن فقد تحولت الصدمة إلى خوف وغضب.
قوّضت الأخطاء الجيوسياسية والاقتصادية الفادحة أيضاً سمعة الدول الغربية، في حين رفع ذلك من مكانة روسيا والصين، وأدت هذه الأخطاء -مع انتخاب دونالد ترامب- إلى حدوث شرخ في الادعاءات البالية بأن القيادة في الولايات المتحدة أخلاقية.
باختصار، نحن الآن في نهاية الفترة الاقتصادية المتمثلة بالعولمة بقيادة الغرب، ونهاية الفترة الجيوسياسية التي تؤديان إلى “لحظة أحادية القطبية” في النظام العالمي بعد الحرب الباردة الذي تقوده الولايات المتحدة.
والسؤال هو ما إذا كان الذي حدث سيقود إلى تفكك مماثل لذلك الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية، وتقليص العولمة والصراع، كما حدث في النصف الأول من القرن العشرين، أو مرحلة جديدة تؤدي فيها القوى غير الغربية -ولاسيما الصين والهند- دوراً أكبر في الحفاظ على النظام العالمي التعاوني.
التجارة الحرة والازدهار:
بعد مرور فترة على التدهور الاقتصادي النسبي، تنتج الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان أكثر من نصف الناتج العالمي بأسعار السوق، و36 في المائة من قياسه عند تعادل القوة الشرائية.
وتظل هذه الدول موطناً لأهم الشركات والمبتكرين في العالم، والمهيمنة على الأسواق المالية، والمسؤولة عن قيادة المؤسسات الرائدة في مجال التعليم العالي والثقافات الأكثر نفوذاً، وينبغي أن تظل الولايات المتحدة أقوى دولة في العالم، ولاسيما عسكرياً على مدى عقود، ولكن قدرتها على التأثير في العالم تعتمد إلى حد كبير على إنشاء شبكة من التحالفات، المنتج لفن الحكم الأمريكي الإبداعي خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هناك حاجة للحفاظ على هذه التحالفات.
يجب أن يكون المكون الأساسي للنجاح في الغرب محلياً، وقد فرض النمو البطيء وشيخوخة السكان الضغط على الإنفاق العام، ومع ضعف النمو، ولاسيما في الإنتاجية، ونشوب اضطرابات هيكلية في أسواق العمل، اتخذت السياسة خصائص محصلتها صفراً بدلاً من أن تكون قادرة على تقديم وعد أكثر للجميع، وأصبحت تعتمد على الأخذ من البعض والإعطاء للآخرين، والفائزون في هذا الصراع هم أولئك الذين هم ناجحون للغاية؛ وهذا ما يجعل أولئك الموجودين في وسط التوزيع الهرمي للدخل وأسفله أكثر قلقاً وأكثر عرضة للديماغوجية العنصرية وكراهية الأجانب.
وفي تقييم الاستجابات، يجب أن نتذكر عاملين:
الأول: كان عهد الهيمنة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية ناجحاً، إذ ارتفع متوسط الدخل الحقيقي العالمي لكل شخص بمعدل 460 في المئة بين عامي 1950 و2015، وانخفضت نسبة سكان العالم الذين يعيشون في فقر مدقع من 72 في المئة في عام 1950 إلى 10 في المئة في عام 2015.
وعلى الصعيد العالمي ارتفع متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 48 سنة في عام 1950 إلى 71 سنة عام 2015، وارتفعت نسبة سكان العالم الذين يعيشون تحت ظل الديمقراطيات من 31 في المئة في عام 1950 إلى 56 في المئة في عام 2015.
والآخر: لم تكن التجارة السبب الرئيس لهذا الانخفاض على المدى الطويل في نسبة الوظائف في الولايات المتحدة في مجال التصنيع، على الرغم من أن ارتفاع العجز في الميزانية التجارية كان له تأثير كبير على العمالة في الصناعات التحويلية بعد عام 2000، وأصبح نمو الإنتاجية المدفوعة من الناحية التكنولوجية أقوى بكثير.
وبالمثل، لم تكن التجارة السبب الرئيس لارتفاع عدم المساواة، فقد طالت التحولات الكبيرة في القدرة التنافسية الدولية جميع الاقتصادات ذات الدخل المرتفع، ولكن النتائج المترتبة على تلك التحولات لتوزيع الدخل قد تنوعت بنحو كبير.
على قادة الغرب والولايات المتحدة إيجاد أفضل السبل لتلبية مطالب شعوبها، ومع ذلك يبدو أن المملكة المتحدة لا تزال تفتقر إلى فكرة واضحة عن الكيفية التي سوف تعمل بها بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، إذ لا تزال منطقة اليورو ضعيفة، وبعض الشخصيات الذين يخطط السيد ترامب لتعينهم وكذلك الجمهوريون في الكونغرس يبدون أنهم عازمون على تغيير بعض قوانين شبكة الأمان الاجتماعي في الولايات المتحدة.
ومن المرجح أن يصبح الغرب المنطوي والمدار بشكل سيّئ منقسماً أكثر، وقد تحصل الصين على عظمة من ذلك، وما إذا كانت الصين قادرة على الصعود وتأدية دور عالمي جديد -نظراً للتحديات الداخلية الهائلة- يبقى السؤال مفتوحاً، ولكن يبدو أن ذلك الأمر مستبعد جداً.
قبل الخضوع لإغراء الحلول الكاذبة، المتولدة من خيبة الأمل والغضب، قد يقوم الغرب بتدمير الركائز الفكرية والمؤسسية التي استقر عليها النظام الاقتصادي والسياسي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وسيكون من السهل فهم تلك المشاعر، ولكن الغرب لن يتشافى من تلقاء نفسه عبر تجاهل دروس التأريخ، لكنه قد يؤدي إلى خلق فوضى في محاولة القيام بذلك.
مقالات اخرى للكاتب