كثيرون من السياسيين العراقيين يتمنون بقاء العلاقات العراقية - العربية ضعيفة، ومنهم من يسعى إلى ذلك، طبقا لمستوى علاقاتهم. ومع أن الدول العربية أصيبت بالإحباط مما حدث في العراق بعد 2003، فإن سياسة المقاطعة - حتى لو كانت نسبية - لم تؤدِّ إلى أي نتائج إيجابية، وكان ممكنا التوصل إلى نتائج أفضل كثيرا، لو جرى العمل بخطوط متعددة من النشاطات الدبلوماسية وغيرها، إلى جانب الإبقاء على تحفظات في مجالات أخرى. فالعراق دولة لم يعد ممكنا التأثير عليها بخطط العزل والمقاطعة، ليس بسبب المصالح الإقليمية والدولية فحسب، بل بسبب قوتها الاقتصادية المتصاعدة، في ظل التوسع المستمر في الإنتاج النفطي.
عندما يصد العرب عن العراق، تتولى إيران وتركيا ملء الفراغ، وينعكس تصادم المصالح بينهما سلبا على العلاقات المجتمعية بين الشرائح التي تتأثر أطرافها بصراعات هاتين الدولتين على أرض العراق وحافته الشرقية قبل مئات السنين، ذلك الصراع الذي بني وفق منطلقات المصالح، وليس لاعتبارات أخرى، كما يراد تصويره واجترار أوهامه على الوضع الراهن. وليس من مصلحة العلاقة المصيرية بين العراق وأمته، تصوير العلاقة بين حكومة بغداد وطهران كأنها علاقة تبعية، بقدر ما هي تلاقي مصالح في بعض النقاط، حتمتها الظروف التي مر بها العراق في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق. وهذا لا ينفي وجود أطراف سياسية وثيقة الصلة بإيران، غير أنها لا تستطيع فرض إرادتها في مجالات السياسة والاقتصاد.
منذ أكثر من عام، حدث اضطراب سياسي في مناطق غرب بغداد، لم يحقق طيلة الفترة نتائج إيجابية، بسبب تصادم المصالح أحيانا، وضيق الأفق السياسي أحيانا أخرى. وتصاعد الموقف بغياب التفاهم، وفوجئ الجميع بهروب أو اختفاء أو انقلاب معظم الذين تصدروا الموجة ورفعوا شعارات تحريضية، ولم يثبت منهم على الأرض والموقف إلا «اثنان»، فتسببوا في نزوح عشرات آلاف العوائل عن بيوتهم، في حالة يخشى أن تتعمق تعقيداتها. وإذا لم تكن تركيا بعيدة عن الإيحاءات التي عقد البعض آمالا عليها - وهو تقدير خاطئ لم يأخذ أصحابه ما حدث إقليميا بنظر الاعتبار - فإن التصرف العربي لم يكن ضالعا في التثوير، باستثناء ما يرد من أموال بطرق غير مباشرة من طرف واحد لا يمثل مركز ثقل عربيا.
وبما أن الغياب العربي في بغداد واضح، فإن نطاق التفاعل مع ما حدث من اضطراب سياسي أخذ شكل ساحات اعتصام بقي مضطربا، على عكس ما كان متوقعا من دور عربي إيجابي في توعية السياسيين عن قرب، حتى لو اعتبر تدخلا، ما دام التدخل موجها للتهدئة والتفاهم. ولا شك في أن المتصدرين للحالة من السياسيين المعارضين تنقصهم الخبرة السياسية والأمنية، وينقصهم فهم التعقيدات الأمنية الإقليمية التي ازدادت تعقيداتها في الآونة الأخيرة، فسرعان ما غاب معظمهم مع أول شرارة تسخين فعلية.
الوصف الدقيق للعراق هو أن هذا البلد لا يمكن اللعب في ساحة مرتكزات تكوينه، فالتشابك السكاني لا يسمح بأي تغيير جوهري، والعمل عكس هذا التصور يقود إلى كارثة معقدة للغاية، ولا يمكن لجيل جديد ناشئ من أجهزة الاستخبارات تقدير المعطيات والمؤديات بصورة صحيحة. لذلك، بقيت المؤسسات الأعرق متحفظة في طرق التفاعل ميدانيا، وهو ما نراه نهجا صحيحا، كتبنا عنه هنا قبل عام. فمجرد البحث في الأفعال وردودها يعكس صورة تخيلية شديدة الخطورة، ولا مجال للانسياق وراء العواطف، وتقديرات سياسيي الصدفة الطارئين، الذين أثبتوا فشلا ذريعا.
الوجود العربي الرسمي في بغداد والاستثماري في العراق يؤسسان لمرحلة ضرورية لمستقبل العراق، بكل انعكاساته على المستوى العربي القريب، وكذلك على الأفق الأبعد، ويمكن أن يتطور إلى وجود تفاعلي إيجابي يحظى بترحيب رسمي وشعبي. وأظن أن فترة 11 عاما وفرت أرضية بدء مرحلة أخرى تبنى على أسس تفاعلية في ضوء المعطيات، التي يصعب تغييرها بغير وسائل الانفتاح.
ومع أن الجوار العربي المباشر يتمتع بقدرة المتابعة والتحليل، بسبب الحركة المباشرة، فإن الرؤية العامة تتطلب مبادرات إيجابية متقابلة، ويبقى العراقيون عروبيي الهوى والهوية مهما طفت تسميات أخرى، ومهما قيل ويقال، وهذا ما تثبته موجات نزوحهم وسفرهم وتجارتهم، فهي ليست قصة انتماء فحسب، بل قصة ثقافة لا يمكن لصعوبات الزمن سلخها عن بعضها. فلا تتركوا العراق، لطفا بالتاريخ.
مقالات اخرى للكاتب