نحن نبني المدن والمدن تربينا) تشرتشل)
تشكل علاقة الانسان بالمدنية واحدة من الجدليات الفكرية المهمة ،فالانسان عرف المدن كمحيط منظم للعيش واستطاع ان يؤسس اشكال متنوعة من المدن واصبح التخطيط العمراني للمدنية ميدان خصب للبحث العلمي والاكاديمي لاهمية المدنية في حياة الانسان، فالمدنية لم تعد تشكل فقط وجود مادي مؤثر في حياة الانسان والمجتمع ، وانما للمدنية ابعاد ماديه واجتماعيه ونفسيه واقتصاديه وسياسيه .الخ تجعل الانسان يصطبغ بصبغتها، ليكون الانسان عنصر تاثير وتاثر في معادلة العلاقة بين الانسان والمدنية، فالمدنية بكل ماتحمله من مكنونات مادية وروحية تمثل كائن حي يخضع لسنن الحياة في الولادة والنمو والموت، فالمدنية تمر بهذه المراحل ، وفي كل مرحلة من هذه المراحل تحمل معها الكثير من الانماط السلوكية والثقافية تسهم في رسم السلوك الانساني المنفرد والسلوك المجتمعي –الجمعي ، مما يجعل للمدنية حضوراً مهم في حياة الانسان.
اذا كان للمدنية هذه الاهمية في حياة الانسان ، فان البحث عن العوامل المؤثرة في تشكيل المدنية يعتبر موضوع جدير بالاهمية ، واذا كان لكل من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية حضور دائم ومؤثر في حياة الانسان، فان للعامل السياسي الحضور الاكبر في ذلك، لما للبعد السياسي من تاثير عام على حياة الانسان والمجتمع، ، فطبيعة النظام السياسي الحاكم يسهم في رسم كثير من الملامح الخاصة والعامة للمدنية ،فالنظم والقوانين المنظمة لبناء وتأسيس وتطوير المدنية لها تاثير مهم في ذلك، وهذه الاخيرة تنبع من طبيعة النظام السياسي ، فالنظم السياسية التي تنتهج نمط انساني قائم على النظر للانسان كعنصر وجودي ابداعي وليس مجرد وجود مادي يمكن تسخيره لمصلحة النظام السياسي، والنظم التي تحترم انسانية الانسان وحقوقه ، سوف يكون لها نظرة انسانية في بناء المدن ، لتكون المدن قواعد واسس لبناء دولة الانسان وليس دولة النظام ، دولة العدالة وليس دولة الظلم ، بحيث نجد مدن انسانية تسهم في تفجير الابداع الانساني وبعث روح التضامن بين ابناء المجتمع
الوحد، مدن الاطمئنان الانساني والنفسي وليس مدن الخوف من المجهول، مدن الوضوح وليس مدن الغموض، مدن الحب والسلام وليس مدن التصارع والاقتتال، هذه المدن يكون التخطيط بكل ابعاده المادية والانساني حاضراً فيها ، ولايعتمد الاسثتناء في أنشائها وتطويرها ، وانما اعتماد الدراسة العلمية والحساب العقلاني في ذلك، بحث لاتشهد ازمات تتولد عن غياب التخطيط واعتماد الاستثناءفي بنائها.
اما اذا كان النظام السياسي نظام شمولي –سلطوي ، سوف نجد مدينة تتسم بالشمولية والسلطوية ، مدينة بعيدة عن التخطيط والعقلانية والنظام ، مدينة الازمة ، ولاستثناءات، حيث تعيش هذه الانظمة الشمولية في ازمة دائمة وتجعل الاستثناء هو القاعدة في حياة الانسان والمجتمع، لذلك يغيب التخطيط وتتوسع المدن بصورة غير طبيعية وتتكثر فيها الهوامش التي تحيط بالمدنية لتشكل اسوار عالية مادية وثقافية غريبة عن المدن ولاتحمل اي صفة من صفات المدنية ، فهي وليدة ازمات النظام واستثناءاته العديدة ، ومع طول عمر النظام تتحول الهوامش الى مدن افتراضية أكبر حجماً من المدنية الاصلية وبالتالي تنتهي المدنية يوماً بعد يوم وتسود مدن الهوامش بكل ما تحمله من جوانب ثقافية ذات ابعاد غير مدنية .
حيث تصبح ثقافة الهامش هي الثقافة السائد بنمطها الثقافي الصرف او بنمطها الثقافي السلوكي حيث نجد صورة للمدنية تختلف عن المفهوم الحقيقي للمدينة العصرية القائمة على النظام والتخطيط والعقلانية ، فبدل من ذلك نجد الفوضى وانعدام التخطيط والسلوك الاعقلاني، لتفقد المدينة بذلك اهم اسسها ، وتسود قيم جديد تشجع على ثقافة البنى القبلية ويحدث تصادم ثقافي شديد فقيم سكان الهوامش ترى في ما تبقى من قيم سكان المدينة قيم منحرفة لا اخلاقية يجب القضا ء عليها في مقابل يرى سكان المدينة بان قيم سكان الهوامش قيم متخلفة لاتصلح للمدينة مما يجعل العلاقة بين الطرفين علاقة مبنية على الشك وعدم الثقة.ومن يتابع ما حدث ويحدث للمدن العراقية وبالاخص مدينة بغداد، ،سوف يجد بان النظم السلطوية والفوضوية اسهمت في تحول مدينة بغداد من مدنية عصرية الى الى شبه مدينة او مدنية اقرب الى القرية.
مقالات اخرى للكاتب