الجريمة تؤمن وتعتقد وتدين بالإجرام , ولا دين عندها إلا الإجرام , ولا يمكن ربط الجريمة بدين غير الإجرام.
فأول جريمة عرفتها البشرية - كما مدوّن في موروثها- تحققت وعدد البشر ستة فقط , والستة من دين واحد وذوي قرابة جينية قوية جدا , لكن الجريمة عندما حصلت بقتل قابيل لأخية هابيل , أوجد القاتل ما يبرر ويعزز قيامه بقتل أخيه , ومنبعه إرادة النفس الأمّارة بالسوء , التي تأججت بفعل رغباته ونزواته وتطلعاته الغريزية المنفلتة , فأذهبت حكمته وشوشت بصيرته ورغّبته بسفك الدماء.
وهذا ينطبق على أية جريمة حصلت وتحصل منذ ذلك اليوم الأليم , وهو ذات المنطلق الإجرامي الدائم الإنصباب في نفوس المجرمين أجمعين.
ومن المعروف في علم الإجرام أن المجرم يجرّد ضحيته من حقها في الحياة , ويحسبها تستحق الموت , ويُراكم المسوغات الكفيلة بقتلها , وعادة ما يربط ذلك بإرادة قِوى عُليا أو توجّه حقق فيه طاقات إنفعالية ذات قدرات عمياوية وتصندقية , وتمترسية في غياهب أوهامها وضلالاتها العدوانية , فيندفع نحو جريمته بقوة وقناعة , وحتى بعد أن يقترف فعلته , تراه يدافع عن نفسه ويتهم الضحية بأنها هي التي دفعته لقتلها وبأنها تستحق العقاب لا هو.
فعلها هولاكو ومَن سار على نهجه من قبله وبعده , ومَن إتخذوا طريقه سبيلا لتبرير جرائمهم الكبرى ضد الإنسانية والأخوّة الآدمية السمحاء , وقد كان هولاكو يبرر ما يقوم به من شنائع وفظائع بأنها تعبير عن إرادة ربه , الذي سلطه على رقاب الناس ومصائرهم لينفذ حكمه فيهم.
وجرائم القتل بأنواعها سواءً قتل النفس أو قتل النفس والآخر أو قتل الآخرين , لا يمكنها أن تحصل إلا عندما يتجسد في وعي المجرم أن الهدف يستحق القيام بما سيقوم به من الإجرام نحوه , وأسهل السبل التي يميل إليها هو أن يدّعي إنتماءً ما , وفقا لتأويلاته ورؤاه , يؤهله ويتوافق مع النوازع الإجرامية المتأججة في دنياه , فتراه يميل للتطرف والإنحراف والإنتساب لأحزاب وجماعات تساهم بتعزيز رغباته السيئة , وتضفي عليها ما يؤهلها للإنفلات.
فالأديان والمعتقدات والأحزاب وجميع الإنتماءات الأخرى , وبلا إستثناء , يمكن إمتطاؤها للقيام بأبشع ما يمكن القيام به من الفظائع البشرية.
حصل ذلك في القرون السابقة وحتى القرن التاسع عشر , وفي القرن العشرين تأكد في ألمانيا وجيرانها والصين والإتحاد السوفياتي سابقا , وغيرها من الدول والمجتمعات , والفرق القائم اليوم هو أن قدرات التواصل الإجتماعي في عصرنا , ذات إمكانيات فائقة على نقل ما يحصل في أي مكان بأسرع من البرق , حتى ليتوهم الناس بأن الدنيا على شفا جحيم ومضطرب لا مثيل له من قبل.
فعلينا أن نتيقظ ونتنبّه ونعي الواقع والوقائع , ونقرؤها بعيون عقلانية علمية بحثية مجردة من الإنفعالات , والتأجيج العاطفي المحسوب والمطلوب لتحقيق أغراض ونوايا خطيرة كامنة في نفوس مريضة ساعية لجحيمات الضياع والخراب المقيم.
فالإجرام عالم قائم بذاته ولا يمكن إقرانه بدين , بل هو أسبق من جميع الأديان , ويجب أن يُحاسب المجرم وفقا للقانون , ومن الظلم أن يؤخذ الآخرون بجريرته وإثمه , ومن الواجب أن تُدرس الأسباب المؤدية للجريمة , وتبتكر الحلول والمقترحات اللازمة لمنع تكرارها , ووقاية الأجيال من أضرارها وتأثيراتها المدمرة للمجتمع.
وعلينا أن نتذكر دائما أن دين المجرمين هو الإجرام وحسب , وإدّعاء المجرم بأي دين آخر جريمة كبرى ضد ذلك الدين!!
مقالات اخرى للكاتب