حيز كبير من الجدل الذي يضرب باطناب العملية السياسية يدور بشأن-او ربما بسبب- الاغلبية السياسية او الديمقراطية التوافقية وتأثيرها على التلكآت التي تطرأ بشكل اقرب الى الانتظام على مجمل الممارسة السياسية الناشئة في العراق.. وكثير من التجاذبات تسيطر على النقاش المحتدم حول مدى مسؤولية هذا الشكل من الاداء السياسي على تعقيد او حلحلة الامور في البلد..
بلا عناء يذكر, يمكننا حصر اتجاهات الرأي التي تلامس الموضوع بين من يرى ان التوافقية ما تزال الوسيلة الانجع والاكثر ملائمة لإنجاح العملية السياسية في العراق وبين من يقول انها كانت مجرد تسوية سياسية مقبولة في ظرف معين ولايمكن ان تستمر اكثر لأنها قد تحمل الكثير من عوامل التصعيد والتكريس للتناقضات الفئوية وتؤدي الى تغييب الاجماع الوطني لصالح المتبنيات الايديولوجية الضيقة..
وحتى الرأي المعارض للتوافقية لا يخلو من التناقض استنادا الى المثابات التي ينطلق منها المراقب في مقاربته للموضوع,فالليبراليون مثلا يعارضون التوافق من حيث كونه نظاما يحدد العلاقة بين جماعات مع انهم يدفعون بالفئة بعيدا جدا خلف الفرد وحقوقه وحرياته،وكذلك اليساريون من خلال تأكيدهم على العلاقات الطبقية اكثر من الخلفيات الثقافية,بينما يتخندق القوميون خلف الريبة المفرطة والتطير من التعددية الثقافية التي من الممكن تحسسها من خلال العبارات المناهضة للتوافق في خطابهم الايديولوجي بوصفه معرقلا للاندماج الكامل خلف راية الشعارات العليا للأمة..كما لا يمكن الاستهانة بالرأي الذي يرى حتمية تحول التوافقية إلى نوع من المحاصصة الطائفية قد تؤدي الى بروز طبقة من السياسيين الانتهازيين الذين يمتطون انتماءاتهم لتحقيق منافع شخصية قد لا تتطابق بالضرورة مع مصالح الوعاء الوطني الأعم..
ولكن مع اتفاقنا مع هذه الآراء على قاعدة ان الديمقراطية التوافقية تعاني من هذه السلبيات,وقد نستطيع ان نضيف عليها الارضائية المفرطة للحلول التي تقترحها المحاصصة السياسية للتناقضات التي تعترض العملية السياسية,وكذلك المخاطرة باستمرار الولاءات القبلية التي قد يوفر لها التحاصص الفرصة للتجذر والتكريس مما قد يعارض الديمقراطية كمفهوم مطلق,ورغم اقرارنا بان الديمقراطية التوافقية قد لا تقترب من طموح المواطن العراقي ,ولكننا يجب ان لا نتجاهل ان هذا الخيار –عراقيا على الاقل-لم يكن بديلا عن الديمقراطية المطلقة بقدر كونه مسارا اتخذته العملية السياسية لمنع تطور التقاطعات السياسية-بل وحتى المجتمعية في بعض المستويات-الى نوع من النزاعات والحروب الاهلية من خلال كبح الخطاب الاقصائي المعلي من الهوية الفئوية وتنكب سياسة الدمج والالغاء مقابل تغيير الولاءات من الانتماءات الاولية الى المباديء الدستورية العليا مع تأكيد التطمينات المقننة التي تستهدف احتفاظ الجماعة او الفئة بكينونتها الثقافية ضمن الفضاء الوطني العام.
فمع كل ما يمكن ان يأكل من جرف الديمقراطية التوافقية,وعلى الرغم من وجاهة المآخذ والنقود التي قد تطولها, الا ان عمق التناقضات الفئوية والمشاكل الطائفية العضال التي تسعى العديد من الجهات لتجذيرها وتأصيلها في المشهد السياسي العراقي قد تجعل من غير الممكن ولا المطلوب -ولا حتى الواقعي- نفض اليد عنها وتجاوزها الى مرحلة قد لا يكون المجتمع مهيأً لتقبلها ولم تتحقق اشتراطاتها حتى الآن..
لا نعد التوافق هو الحل المثالي-ولا حتى المحبذ-للمشاكل المتوطنة في الجسد العراقي المعتل من التقادم المفرط للسياسات المغذية للانقسامات المجتمعية..الا انه في نفس الوقت,وبسبب نفس هذا الاعتلال,قد يكون تسوية معقولة تسير بالعملية السياسية –بدرجة مقبولة من الأمان-على الحبل المعلق ما بين الطموح المشروع بالدولة الديمقراطية الكاملة والصراع الاهلي الافنائي بين الجماعات المتعايشة,كما انه يضمن عدم انهيار الدولة والنظام تحت ضغط التنافس الشديد والتنازع الجماعي المحموم وتوحلها في دواميات متوالية من الأزمات.
قد يكون هذا الواقع شديد الاحباط للمشرع العراقي الذي استنتج ان تحقيق الارضية الملائمة للتحول نحو الديمقراطية الكاملة التي تستند الى الاغلبية السياسية المعبر عنها بالانتخابات الحرة المباشرة لا يحتاج الا الى دورتين برلمانيتين ,وان هذه الفترة اكثر من كافية لتخليق الآليات التي تحقق التمثيل الحقيقي للنبض الجمعي للشعب وتأمين التراكم السياسي الذي من الممكن ان يفرز الكيانات العابرة للانتماءات الطائفية والعرقية..ولكن من الحكمة الاقرار بان الهدف الواقعي الآن ليس في نبذ المحاصصات الفئوية بقدر ما هو ضبط التقاطعات ضمن المظلة الشاملة للدستور والاتفاقات السياسية..وان الطموح يجب ان يكون في مستوى الدفع نحو منع تغول هذا التوافق على اي ممارسة قانونية تبتعد عن الافراط في المساومات السياسية التي تتطفل على الحراك المجتمعي السليم..فهناك عمر طويل سوف تعيشه الديمقراطية التوافقية بين ظهراني عمليتنا السياسية المتعثرة..ويبدو ان هناك الكثير مما يتطلب انجازه قبل ان نأمل في دخول النفق الذي قد يحمل ضوءا ما في منتهاه..
مقالات اخرى للكاتب