كما في كل المدن العراقية، لم تسلم مدينتنا الصغيرة الغافية بأمان واسترخاء على ضفة دجلة اليمنى من جرائم وشرور البعثيين، وخاصة من كان يحلو لهم التشبه بالكلاب السائبة، التي تنهش كل من تراه أمامها، وكان "علي السربوت" احد هؤلاء النهاشين، تسلق الهرم الحزبي البعثي بسرعة قياسية، وأصبح عضو شعبة بفضل كفاءته في كتابة التقارير، واحترافه الوشاية، التي يمكن أن ترسل المتهم بها إلى حبل المشنقة، فضلا عن ابتزاز الآخرين، ومضايقتهم حتى في حياتهم الخاصة، وبراعته في مطاردة الناس للانضمام إلى فصائل الجيش الشعبي، وزجهم في حربي الخليج الكارثيتين.
كان هذا "السربوت" فاشلا دراسيا، وسمعته الاجتماعية لا تبارح نقطة الصفر، رغم الوجاهة المصطنعة التي حصل عليها، عقب انتمائه إلى البعث، وكان يعاني من الشعور بالدونية في علاقته مع الآخرين، وهي الشروط الواجب توفرها في الكادر البعثي الذي يعتمد عليه صدام حسين وزمرته الحاقدة.
بعد السقوط اضطر للاختفاء لما يقارب السنتين، خوفا من استهدافه، وهو العارف بحجم جرائمه، وعدد قبل الجميع بـ "الأستاذ علاوي"، وعندما أراد إظهار تواضعه، والإيحاء بأنه تغيّر، وأصبح شخصا آخر، لا علاقة له بما كان عليه سابقا، ترجل من سيارته وصافح من أوجدهم حظهم العاثر في طريقه، ولزيادة الإيهام والزيف، أطلق العنان للحيته، ولونها بألوان الحمار الوحشي، وطرز جبهته "الكريمة" بعلامة السجود المعروفة.
عند سؤال زملائه الجدد، كيف جرى الذي جرى؟ وكيف قبلتم به في صفوفكم؟ كان الجواب حاضرا (لقد تاب توبة نصوح!) أي انه تاب عن سلوكه المشين، واقسم بأغلظ الأيمان، بأنه تخلى عن انتمائه السابق، وعن ممارساته الإجرامية الفاشية، وخلع ثوب الخزي والعار، ليتطهر في بحر الأيمان والنور الذي كان غافلا عنه، مشددا على أن من يتحمل المسؤولية في ذلك هو الشيطان لا غيره، وهو الذي أغواه بالانتماء للبعث، وانه الان قد حول ولاءه بشكل مطلق إلى سادته الجدد، مقدما لهم فروض الطاعة بذلة ومهانة، لا يقدم عليها إلا المتلونون، وذوو الضمائر الميتة.
ومن جديد اخذ الأستاذ "علاوي" يصول ويجول في رحاب الوضع الملتبس، والفوضى العارمة، ويساهم بنجاح ملفت في إذكاء الفتنة الطائفية، والتعصب في الرأي ومصادرة حق الآخر، وتهميشه وإقصائه، فضلا عن هوايته المفضلة في صقل الوشايات الدقيقة كمخبر سري لا يشق له غبار، كما غرق الى أذنيه في صفقات الرشى والفساد، وخداع البسطاء بقدرته على انجاز معاملاتهم وإيجاد وظائف لهم، وهو يتقدم اليوم بخطى ثابتة في سلم المسؤولية دون حياء أو خجل من احد.
لقد عاد "علي" أو "علاوي" الى ذات الموقع الذي ظن الناس انه طوي يوم استقر صدام حسين في مكانه ضحاياه، لكن المفاجأة انه زار مدينته، تحف به حلقات الحماية المتداخلة، والسيارات المظللة، ومناداته من
اللائق من مزبلة التاريخ.
أنها حكاية من هذا الزمان، وكل زمان، والعاقل يفتهم!
مقالات اخرى للكاتب