في مطار أتاتورك في العاصمة اسطنبول كان الشاب عماد عبد الواحد (24) عاما ينتظر وصول وسيط ليقله الى المحطة الأولى في رحلة الهجرة الى أوروبا، فبعد اتفاق مسبق مع أحد المكاتب في بغداد، تم إعطاؤه رقم هاتف ليتصل فور وصوله بشخص يعمل وسيطا لتنسيق وصول الباحثين عن اللجوء بطرق غير رسمية وبعيدا عن الروتين الذي قد يضطره البقاء لأشهر طويلة في خانة الانتظار، وبعد دفع نصف المبلغ مقدما يذهب عماد الى قبرص ومن هناك سيختار له المهربون أي الدول الأكثر ضمانا في الوصول عبر رحلة وسط البحر بزورق بدائي غير مضمون
السلامة.
هجرة غير مسبوقة
سجلت محافظات في الوسط والجنوب ومدن عراقية أخرى هجرة آلاف الشباب العراقيين من فئات وشرائح اجتماعية مختلفة الى بلدان أوروبية وآسيوية للبحث عن فرص عمل والاستقرار العائلي، بعد أن أسهم ارتفاع معدلات البطالة وانعدام فرص العمل بين الخريجين والشباب في تحفيز رغبة الهجرة للكثيرين ممن ضاقت بهم سبل العيش بكرامة. ففي محافظة ذي قار لوحدها كشفت الحكومة المحلية عن هجرة أكثر من 350 شابا خلال الشهرين الماضيين فقط، في حين ان مدنا ومحافظات أخرى ما زالت توثق أعداد المهاجرين المتزايدة بسرعة كبيرة.
سماسرة محليون
ليس عماد لوحده من غامر بمشروع الهجرة، فمئات الشباب وسط المقاهي التي تعج بالعاطلين أصبح الحديث الرئيس لهم هو مشروع الهجرة الى أوروبا والبحث عن الحياة هناك. إذ يقول حمزة صاحب الـ(23) عاما: «أنا خريج الجامعة المستنصرية قسم الإدارة والاقتصاد منذ عامين، وبحثت كثيرا عن عمل، لكن دون جدوى، ثم ذهبت للتطوع في الشرطة، لكنني ايضا لم أحظ بفرصة بسبب الفساد والمحسوبية، وبقيت على هذا الحال لأكثر من عامين، الأمر الذي اضطرني للبحث عن خيار الهجرة الى خارج البلاد للبحث عن حياة جديدة هناك، وأنا لست الوحيد الذي أفكر بهذا الموضوع بل نتبادل أطراف الحديث أنا ومجموعة من أصدقائي بشكل يومي للوصول الى قرار نهائي، لاسيما أن بعض الوسطاء موجودون معنا في المقهى عينه وبإمكانهم تسهيل مهمة وصولنا الى الدول التي نريد الوصول إليها».
أجندات
سماسرة الهجرة هم الآخرون أيضا كانوا عاطلين عن العمل وشاءت الظروف أن عملوا في هذا المجال خلال رحلتهم للبحث عن عمل في دول مجاورة، إلا أن بعض المعلومات التي يتداولها آخرون تشير الى ارتباط قسم منهم بأجندات خارجية تختص بهجرة الشباب العراقيين الى خارج البلاد، وأصبحوا سماسرة متخصصين بهجرة الشباب مقابل مبالغ مادية تدفع بضمانات أشخاص ووسطاء آخرين في مكاتب تختفي خلف واجهات متنوعة، إذ أشار رئيس اللجنة الأمنية في مجلس محافظة ذي قار جبار الموسوي: الى تزايد أعداد المهاجرين من شباب المحافظات الوسطى والجنوبية الى دول أوروبا عبر طرق تهريب خطيرة، منبها الى أن الجهات الأمنية في المحافظة سجلت هجرة 350 شابا من خريجي الكليات والعاطلين عن العمل الى الدول الأوربية خلال الشهرين الماضيين فقط.
واتهم الموسوي مخابرات دول إقليمية بتنفيذ مخطط لإفراغ البلد من الشباب، لاسيما من محافظات الوسط والجنوب، مستغلين انعدام فرص العمل وارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين والشباب التي أسهمت بتحفيز رغبة الهجرة لديهم واللجوء الى الدول الأوروبية ودول الجوار، داعيا الحكومة المركزية الى الانتباه لتلك الظاهرة والعمل على اتخاذ إجراءات حقيقية لتحسين الأوضاع الاقتصادية بما يوفر المزيد من فرص العمل للقوى العاملة والخريجين.
تنسيق
وزارة الهجرة والمهجرين تنسق مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي بالبلاد لوضع آلية تحد من الهجرة غير الشرعية للعراقيين، كاشفة عن إجراءات عاجلة للمقيمين الشرعيين منهم في دول الجوار ممن تقدموا بطلب اللجوء عن طريق الأمم المتحدة.
مدير قسم الهجرة الخارجية في الوزارة أحمد رحيم قال: إن الوزارة وبعد الموجة الأخيرة لهجرة العراقيين بصفة غير شرعية عن طريق البحر الى دول الاتحاد الأوروبي، فقد عملت على اتخاذ إجراءات عاجلة للحد من هذه الظاهرة التي باتت تتزايد بشكل كبير مؤخرا.
وأشار الى أنه سيتم عقد اجتماعات طارئة مع سفراء دول الاتحاد الأوروبي المعتمدين في البلاد بهدف بحث ما ستقدمه حكوماتهم الى العراقيين الذين دخلوا أراضي تلك الدول بصفة غير شرعية، فضلا عن تزويد الوزارة بأعدادهم التي أكد أنها تتزايد متجاوزة الـ 500 لاجئ في اليوم الواحد.
رحيم أكد أن الأيام القليلة المقبلة ستشهد إيجاد حلول لأزمة العراقيين اللاجئين بشكل غير شرعي، فضلا عن تقديم المساعدة لهم من خلال تسهيل دخولهم أو عودتهم، ونوه بأنه سيتحدد بعد عقد الاجتماع ومناقشة الأمر بشكل مفصل بالتنسيق مع وزارة الخارجية.
ولفت الى أن وزارة الهجرة تقوم بمتابعة أوضاع الأسر العراقية التي تقيم بشكل شرعي في بعض دول الجوار لطلب اللجوء عن طريق منظمة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، مؤكدا تأثر تلك العائلات بأي قرارات عودة او رفض لمعاملاتهم التي يتابعونها منذ أعوام، منبها في الوقت نفسه الى أن منظمة الـ «UN» ستعمل على تسيير معاملات طالبي اللجوء بشكل أسرع مما كانت عليه سابقا.
يذكر ان وزير الهجرة والمهجرين جاسم محمد كان قد أعرب في تصريحات صحفية سابقة، عن قلق الوزارة ازاء تفاقم ظاهرة الهجرة غير الشرعية من البلاد الى الدول الأوروبية ومخاطر الإرهاب والتهريب المرتبطة فيها.
وأوضح رحيم ان الاجراء جاء بهدف منحهم الأمل وعدم شعورهم باليأس والذي قد يسوقهم للانصياع لرغبات الاشخاص الذين يهربون الاسر والشباب بشكل غير شرعي وتعرضهم للخطر لتحقيق أهداف مادية، خصوصا ان ظاهرة الهجرة غير الشرعية تنامت بصورة كبيرة نتيجة الأوضاع التي تعيشها الدول العربية بشكل عام لكون اللاجئين هم من كل الدول العربية وخاصة من السوريين. وافاد بان الوزارة وعقب رصدها وجود مواطنين عالقين في الحدود التركية اليونانية، فإنها تبحث حاليا اوضاعهم مع الحكومة التركية لمعرفة مصيرهم، مشيرا الى أنها وفي السياق ذاته تعمل على إقامة الندوات التوعوية والمؤتمرات التثقيفية للحد من الهجرة غير الشرعية ووضع دراسة شاملة لهذا الملف من أجل تطبيقها على الأرض للحد من هذه الظاهرة التي تتم بالتنسيق مع منظمة الهجرة الدولية «IOM» بغية التأكيد على عدم اتباع هذه الخطوات للهجرة من العراق خصوصا في دول تركيا واليونان والنمسا
وماليزيا.
وشهدت المدة الاخيرة قيام مهربين عرب وغربيين بعمليات نصب واحتيال على عراقيين في تركيا وبعض الدول العربية لتهريبهم الى أوروبا، إلا أن عددا كبيرا منهم تعرض للغرق في البحر أو الإمساك به من قبل شرطة تلك البلدان.
جهات خارجية
نواب ومراقبون حذروا من هجرة الشباب الى خارج البلاد، وفيما اشاروا الى ان بعض الجهات – لم يسموها – ترمي من وراء ذلك الى إفراغ العراق من محتواه الفكري والشبابي، دعوا الحكومة الى اتخاذ تدابير لازمة لمنع هذه الهجرة عبر إطلاق حملات توعية، للوقوف بالضد من هذه المخططات التي تخدم عصابات «داعش» الإرهابية.
وقالت عضو لجنة المهجرين النيابية نهلة الهبابي: إن «مخططات خفية وجهات خارجية لا تريد للعراق الخير والاستقرار، وراء هجرة الشباب»، مؤكدة أن «البلاد تحتاج الى الطاقات الشبابية في صراعها مع قوى الإرهاب وإعادة الإعمار».
وأوضحت أن «المخطط الداعشي لإفراغ العراق من الشباب الهدف منه ضرب قوة الحشد الشعبي»، مبينة أن «الهجرة الى أوروبا باتت ظاهرة لا يدرك الشباب المهاجرون حقيقتها».
وطالبت الهبابي الحكومة «باتخاذ التدابير اللازمة وإطلاق حملات توعية للشباب عبر الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي للحد من خطورة هذه المخططات التي تريد إفراغ البلاد من طاقاته الشبابية».
مخططات
النائب عن ائتلاف «دولة القانون» صادق اللبان كشف عن «اعتراف أحد القيادات الداعشية بعد اعتقاله في ديالى، عن وجود مخطط صهيوني- تركي لتسهيل هجرة الشاب الى الخارج، لإفراغ البلاد من جيل الشباب الواعد».
مبينا أن «القوات الأمنية ألقت القبض على أحد قياديي داعش في ديالى، واعترف بوجود مخطط ومؤامرة على العراق من قبل تنظيم داعش بالتعاون مع اسرائيل وتركيا ودول اخرى لافراغ البلاد من الشباب».
وأوضح أن «داعش يعمل على جمع إرهابييه من جميع دول العالم، من أجل القتال في العراق، ومن جانب آخر يعمل بشتى الوسائل من أجل إفراغ العراق من الشباب، لذلك جاءت دعوة المرجعية الدينية بضرورة التصدي لهذه الهجرة، وتعاون الحكومة وجميع المسؤولين من أجل إيجاد فرص العمل ودرجات وظيفية للشباب». لافتا الى ضرورة الانتباه لهذه الظاهرة الخطيرة، داعيا الحكومة لـ»دعم الشباب وإيجاد فرص عمل لهم ليسهموا في بناء العراق
وحمايته».
كفاءات
من جهته، وصف عضو لجنة العلاقات الخارجية عباس البياتي «الشباب العراقي بالكنوز والكفاءات المهمة والتي تسهم في صناعة المستقبل».
وأكد البياتي أن «دفع الشباب الى الهجرة يعد جريمة بحق هذا الوطن ومهما كانت الأسباب على الحكومة أن تضع خطة لاستيعاب الشباب والحيلولة دون هجرتهم».
وطالب «الحكومة باتخاذ إجراءات مهمة منها توفير فرص العمل للشباب ووضع خطة ستراتيجية تستوعب جميع الطاقات الشبابية، فضلا عن إيجاد حلول أمنية سريعة وتحرير المناطق المغتصبة لإعاة النازحين الى مناطقهم وطرد داعش منها».
في السياق ذاته، أوضح الباحث في المجال الإعلامي خالد نعمة، أن أسباب هذه الهجرة التي باتت تقلق الجهات الرسمية والشعبية «تراكمية»، منتقدا الحكومات اللاحقة «لأنها لم تضع حلولا لهذه القضية التي تنذر بإفراغ البلاد من طاقاته المستقبلية».
وعن أسباب هذه الهجرة، أجاب نعمة: «الأسباب تتمثل بقلة فرص العمل والخدمات، فضلا عن العمليات العسكرية وسيطرة داعش الإجرامي على بعض مدن العراق، ما حدا بالشباب الى البحث عن فرص لحياة أفضل في دول أخرى».
ودعا الحكومة، الى «وضع خطط ستراتيجية من شأنها أن تعيد بناء النظام الاقتصادي والاجتماعي على أسس الكفاءة»، مبينا أن «هجرة الشباب تدق ناقوس الخطر لأن أغلبية الشباب المهاجرين من الكفاءات وأصحاب الشهادات».
كما لفت الباحث والمحلل النفسي د. عبد الكريم الزهيري، الى أن «هجرة الشباب عملية منظمة وأبعد من الأسباب الداخلية ومخطط لها من قبل جهات أجنبية تريد إفراغ العراق من محتواه الفكري وثروته الشبابية».