ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة، وسط غابة من الأسئلة الحارقة في بلدنا المنكوب وملخصه: هل كتب على، العراقيين تجرع مرارة الهزيمة، وامتهان الكرامة الوطنية مرتين خلال فترة قصيرة، رغم ما يتمتعون به من سمات وطاقات بشرية ومادية تؤهلهم لأن يكونوا في طليعة شعوب العالم؟ أليس عيبا علينا جميعا أن يتحول عراقنا إلى مكب لنفايات الإرهابيين من "داعش" وغيرها، من حثالات لا علاقة لها بالجنس البشري إلا بالإسم فقط؟
إن ما حدث في الموصل وقبلها في الانبار والفلوجة ثم في كركوك وصلاح الدين لا يمكن تسميته إلا بالكارثة الوطنية والمأساة الإنسانية المروعة، وبصرف النظر عن أعداد هؤلاء القتلة وتجهيزاتهم، والتي لا يمكن مقارنتها بما تمتلكه قواتنا المسلحة، إلا إنها استطاعت تحقيق هذا الانتصار، ولو مؤقتا، لأسباب يعرفها كل ذي عقل سليم، ومن أهمها الانشغال بالمناكفات والصراعات العبثية بين أطراف النخبة السياسية المتنفذة، وبالتالي ضياع الثوابت الوطنية، واستبدالها بمحاولات محمومة ومستمرة لتسقيط الاخر، والانفراد بالسلطة ومغانمها، وامتيازاتها، دون أي اعتبار لانعكاساتها السلبية على أفراد القوات المسلحة ومعنوياتهم، وهي التي بنيت على نفس الأسس الخاطئة، باعتماد المحاصصة الطائفية والقومية، ما ادى إلى تعدد الولاءات فيها، واتخاذها أبعادا حزبية وطائفية وشخصية، فضلا عن المستوى المتدني للتدريب والتسليح، وعدم كفاءة بعض القيادات العسكرية والأمنية، وتطعيمها ببعثيين كبار، لا يضمرون الإخلاص والوفاء للتجربة الديمقراطية المصابة أصلا بمرض فقر الدم السياسي منذ لحظة ولادتها على يد سيء الذكر "بول بريمر"، ولأن السذاجة السياسية لها دور مهم في إدارة شؤون دولتنا العتيدة جرى التعامل مع هذه القيادات بايجابية كبيرة، أملا في تحويل ولائها إلى السلطة الجديدة، أو إلى شخص بعينه، الأمر الذي اثبت خطأه وخطره خلال الانهيار المفجع في محافظة نينوى، وبقية المدن والمحافظات، وهروب أعداد هائلة، بضمنهم قيادات عسكرية تحمل رتبا كبيرة، بعد أن صدرت الأوامر لهم بالانسحاب وتخييرهم بين سحب معداتهم أو تركها في مكانها! وهو ما حصل، فاستولت عليها المنظمات الإرهابية من "داعش"، وبقايا البعث وغيرهم، واحتلت الموصل وبقية المدن العراقية العزيزة.
ألا تكفي هذه الكارثة الوطنية أولي الأمر والساسة المتنفذين، وتدفعهم إلى مراجعة انفسهم، والتخلي عن نهجهم المدمر الذي يعتبر الذات محوراً لكل ما يجري في العراق وربما في العالم أيضا؟ هذا النهج الذي أوصل الشعب والوطن إلى الجحيم، ووضع بلادنا في ذيل قائمة الدول ألأكثر تخلفاً في العالم.
إن المطلوب إثباته لا يحتاج إلى عبقرية لمعرفته، وباستطاعة المواطن البسيط تشخيصه بدقة، وهو الكف عن المهاترات والصراعات الأنانية الضيقة، وفسح المجال أمام الجميع للمساهمة في إدارة البلد، وصناعة القرار السياسي، دون تهميش أو إقصاء لأحد، ودون استئثار أو تفرد من أحد، وهنا لابد من التذكير بأن من أهم المستلزمات الضرورية لإنقاذ العراق، هو دفن المحاصصة بكل أنواعها، والإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية، تأخذ على عاتقها البحث عن حلول سياسية جدية، والمباشرة بمصالحة وطنية حقيقية، والاستفادة من كل الطاقات المجتمعية، بمن فيها العشائر والصحوات ومنظمات المجتمع المدني، لتحشيدها وتقديم دعمها وإسنادها الكاملين لقواتنا المسلحة، في مواجهة هذا الخطر الداهم، ودحره مرة وإلى الابد.
إن إعادة هيكلة وبناء الأجهزة الأمنية والعسكرية على أساس الوطنية والكفاءة والنزاهة، وان يكون ولاؤها الوحيد للوطن، مع الاهتمام الجدي بمستوى تدريبها وتسليحها، ترتدي أهمية استثنائية، سيما في هذا الظرف بالذات، لتكون مؤهلة حقاً في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
بيد إن هذه الإجراءات ومهما كانت صائبة، سوف لن يكتب لها النجاح، إذا تم الاكتفاء بها، وإنما يجب أن تتحقق بموازاتها جملة من الانجازات على صعيد توفير الخدمات الضرورية من ماء وكهرباء وصحة وتعليم وسكن، والاحتكام إلى مبدأ المواطنة والتعامل مع العراقيين على قدم المساواة ودون تمييز بسبب الدين أو الطائفة أو القومية وتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد المالي والإداري، الوجه الثاني للإرهاب، فضلاً عن احترام الحريات العامة والشخصية وحمايتها من التجاوز والمصادرة.
إن الشروع بتطبيق هذه الإجراءات وغيرها الكثير، سينقذ العراق من الهاوية التي ينحدر إليها، وعند تطبيقها سوف لن تستطيع "داعش"، ولا بقايا البعث المجرم، أو غيرهم من السفاحين، تدنيس ولو شبر واحد من أرضنا الطاهرة.
مقالات اخرى للكاتب