نسمات منتصف الخريف المسائية المنعشة ، تشبهُ أول شباط اللبّاط وطقوسه المبهجة .
الهررةَ بدأت تهرّ وتفرّ وتخيط وتخربط وتمشي على حلِّ شعرها ورزقها . صوت فيروز المذهل يرنّ برأسي ، مثل حكاية عذبة ما زال طعمها يلبط في سقف الذاكرة « ورقو الأصفر شهر أيلول تحت الشبابيك ، ذكّرني وورقو ذهب مشغول ذكّرني فيك «
عمّال الكهرباء لم يصلحوا قنديل الزقاق المنطفىء منذ أسبوع . ألزقاق المظلم سترٌ وطمأنينة للحرامي الخوّاف . لو كان المشهد مستلاً من فلم هوليوديّ عظيم ، لكتبتُ أنّ العمال هم من كسر القنديل الأبيض ، وليلةَ ينجح الولد الوسيم ليوناردو دي كابريو في سرقة بنك الحارة ، فأنه سيلتقي بهؤلاء المتواطئين الأوغاد ، في حانة مرمية خارج قرية الشريف ، ويُثقل جيوبهم بالدولارات ، وبطونهم بكؤوس الويسكي الفاخر ، ولحم الضان والكافيار النفيس .
البارحةَ اعتصمتُ بجوف غارٍ عتيقٍ منسيٍّ عند قَدَمِ جبل . كرعتُ عشرين كأساً وكأسين . رأيتُ فيما ترى الصحاة المتصوّفة بالحروف ، أنَّ الناسَ قد صارت تمشي على رؤوسها ، ومداساتها ترفرف في الأعالي . ضحكتُ عليَّ كثيراً ، ومن فرط الضحك ، فزَّ عاشرُ جارٍ وانكسرتْ قارورة النبيذ . أحببتُ جداً المقطع الفائت من المكتوب . سأبني فوقه قصةً قصيرةً . سأصيّر الغار حانةً مكتظة بالناس . سأكتشف أنني أسوقً مائدتي وحدي . أضرب كأسي بفم الزجاجة ، فتردّ عليَّ برنّةٍ تشبه كثيراً جملة « بصحتك بغداد العليلة «
لا معنى أبداً لوجود بائع الجواريب العجوز ببطن هذه المدخنة السكرانة . ليس بعبّي فائض ليرات كي أشتريَ منه جورباً . ألتلفزيون هنا هو كائنٌ فائضٌ مسخٌ ملطخٌ بالدم وبالدموع ، ووجوه الزبائن تطفو وتتلألأ في باب الكأس . إنثلم حزني الآن على بائع الجواريب الذكيّ .
لقد نجح في قنص زبونٍ رحيم . كان بودّي أن أقترح عليه أن يملأ سلته ، ببضاعة تعزف على وتر اشتهاءات سهارى الخمّارة . سأرسم مشهداً آدمياً على هذه القصة القصيرة ، وأنادي على الجواريبجي الجميل ليستوطن الكرسي قبالتي . أنا يا شقيقي مثلك . كلانا هبط من فرْج زمان الأبيض والأسود . سأقنعه ببيع السكائر مثلاً ، تماماً كما كنت أصنع وأدور بخمّارات بغداد العباسية الطيبة . سأبهّر النصَّ بامرأة ثلاثينية اسمها عبير . عبير هي ضيف مكرور على مساء الحانة . ألثلاثينية الشهية ببنطال الجينز الضيق وبقميص نبيذيّ شفّاف ، توزع الإبتسامات والضحكات السينمائية على الندامى كلهم . ألسكارى يتشممون كما قطط حاوية ، عطر البنت عبير فيزيدون الكأس كأسين ، أمّا الشاطر أنا فسوف يكون بمستطاعي ، كشف الإبتسامة الخفيفة التي يرسلها صاحب الحانة للمرأة اللذيذة ، فتردّها إليه يابسةً مأخوذةً من ضلع تبادل المنفعة . سأنهضُ اللحظةَ وأقبّلُ يدَ عبير الترفة ، وأخرج من الحانة كي تنتهي قصة الليلة .
مقالات اخرى للكاتب