شهد عددٌ من المدن وساحات المواجهة في العراق معارك ضارية واشتباكات شرسة خلال الأيام الماضية في محافظتي الأنبار وصلاح الدين وقضاء بيجي بين القوات العراقية ومسلحي تنظيم داعش، وكانت القوات العراقية وبدعم من طائرات التحالف الدولي، قد كثّفت ضرباتها في مختلف مواقع العمليات. وبالمقابل فقد شنّ تنظيم داعش هجوماً عنيفاً على المستشفى الأردني شرقي مدينة الفلوجة، وأسقط مروحية عراقية خلف قاعدة سبايكر بنيران أرضية في منطقة صحراوية، ولكن طيران التحالف الدولي شنّ هجوماً جوياً مضاداً على مواقع داعش في هيت وكبيسة، وأدّت هجماته إلى تدمير مصنعي لتصنيع العجلات المفخخة ومركز رئيسي للقيادة بينهم عدد من أعضاء التنظيم من جنسيات مختلفة، وفي ديالى قصف طيران التحالف مواقع داعش في قرى سيد غريب والمعامرة والغوانم والفارس لناحية قرة تبّه شمال شرقي بعقوبة.جاء هذا التطور في جبهات القتال بعد الاعلان عن تحالف رباعي يضم موسكو وطهران ودمشق وبغداد علماً بأن علاقة العراق هي بالتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهو مرتبط وإياها باتفاقية الإطار الستراتيجي، التي تشمل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى القضايا العسكرية والأمنية؟!لقد انتبه حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي إلى ملابسات أن يكون العراق في قطبين متناقضين ومتصارعين، ولذلك حاول أن يختزل العلاقة “بالرباعية” بتنسيق استخباري عبر خليّة، وظيفتها الأساسية، جمع وتبادل المعلومات وتحليلها وفي أحسن الأحوال، فإن التنسيق إزاء بعض الخطوات، هو الذي يمكن أن ينصرف إليه الذهن وليس أكثر من ذلك. ويدرك العبادي إن تحالفاً مع موسكو سيجعله في مواجهة مباشرة مع واشنطن.
صحيح إن العراق هو صديق لطهران عدوّة واشنطن التي لديها نفوذ كبير فيه، ولكن هذه الأخيرة تدرك، إن طهران هي غير موسكو ، وذلك للروابط بين البلدين على الرغم من الصراعات التاريخية والحروب القديمة والجديدة، لكن طهران ترتبط مع بغداد بحدود تزيد عن 1200 كيلومتر، في حين إن موسكو ستتسلّل إلى المنطقة، خصوصاً إذا ما شكّلت المحور الرباعي الذي سيكون معادياً لواشنطن.
وقد سبق لموسكو أن عبّرت عن حضورها العسكري والسياسي دعماً لدمشق، ولقي مثل هذا الحضور احتجاجاً أمريكياً وأوروبياً، حتى وإن كان عدوّهما مشترك، والمقصود داعش والتنظيمات الإرهابية، فما بالك حين يقترب الروس ليس من المياه الدافئة فحسب، بل من قلب بحيرة النفط (العراق) ويطلّون منها على الخليج!ولم تتساهل واشنطن مع العبادي، فقد عبّرت وبلغة حازمة، إن من غير المناسب عقد حتى محادثات استخبارية وعسكرية مع خلية التنسيق الرباعية، معتبرة ذلك مشكلة جديدة قد تسبّب في تداعيات حقيقية في الحرب على داعش في المنطقة. ومثل هذا التوجّه لم يلقَ ترحيباً أمريكياً، كما إنه استفزّ دول الخليج، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، التي عبّرت عن قلقها لمثل هذا التطور، يضاف إلى ذلك إن أطرافاً عراقية أبلغت مسؤولين أمريكان معارضتها للتدخل الروسي.إذا كانت الحرب على الإرهاب من جانب التحالف الدولي قد لاقت انتقادات شديدة لعدم فاعليتها، فإن مثل هذا التقييم هو الآخر ينسحب على عدم فاعلية خلية التنسيق الرباعي، خصوصاً وأن تنظيم داعش يمتلك قوى وشبكات واسعة، ويستطيع على الرغم من كل آثامه وجرائمه، أن يجنّد ويسلّح ويموّل المئات من المقاتلين الجدد. وقد كان في نيّة طهران دفع خلية التنسيق الرباعية لاتباع ستراتيجية تقوم على تشكيل قوة روسية – إيرانية لدعم القوات العراقية والسورية على تأمين المناطق التي يتم تحريرها من سيطرة ” داعش”، وبناء قواعد عسكرية خاصة بالخلية الرباعية، تشمل مراكز تدريب ومطارات وتزويد الجيشين العراقي والسوري بأسلحة إيرانية وروسية، لكن مثل هذا التوجّه يعتبر من الخطوط الحمراء بالنسبة للولايات المتحدة .
قد يكون ضمن ستراتيجية الروس بعد عودتهم إلى المنطقة، ولاسيّما في سوريا حلحلة القضية الأوكرانية من جهة، وإضعاف نفوذ إيران التي تنفرد بالمنطقة في مواجهة الأمريكان من جهة أخرى ، وذلك بهدف تقليص تأثيراتها على المناطق المحاذية لروسيا وفي ” مجالها الحيوي” والتي كانت جزءًا من “الامبراطورية” الاشتراكية، وذلك قبل سقوط الاتحاد السوفييتي في العام 1991 لكنه في كلا الحالين فإن التنافس الروسي – الأمريكي، ومعهما إيران حول مراكز النفوذ، يمكن أن يؤثر على مسار الحرب سلباً ضد داعش، بل يعطّل القضاء عليها، وحتى الآن فإن المؤشرات، لا تبدو إنه سيتم القضاء عليه قريباً.
جدير بالذكر إن عدداً من عشائر الأنبار رفضت الدعم الروسي لطرد داعش من الأنبار (غرب العراق)، واعتبرت ذلك تدخّلاً قد يسهم في مضاعفة مشكلات المنطقة . وتعتمد بعض هذه العشائر على المساعدات الأمريكية في تدريب وتسليح المتطوعين من الجماعات السنّية بهدف استعادة مدنها وقراها من تنظيم داعش، وترفض دخول جماعة الحشد الشعبي إليها، وتصنّف الجيش العراقي ضمن دائرة النفوذ الشيعية السياسية، على الرغم من أن وزير الدفاع سنّياً، وفقاً لنظام المحاصصة.وقال تركي العايد، وهو أحد القياديين بمجلس عشائر محافظة الأنبار إنه لن يتم تطهير مدن الأنبار اذا تدخّلت روسيا في الملف الأمني في العراق، بسبب الإشكالات التي حدثت مع قوات التحالف الدولي التي لا ترغب بتدخّلها. وكانت واشنطن قد أبعدت قوات الحشد الشعبي من دخول الأنبار وصلاح الدين بعد الاتهامات التي وجهت إليها بخصوص انتهاكاتها، بعد “تحرير” مدينة تكريت، وليس لواشنطن ثقة كبيرة بالجيش الذي تعتبره تحت نفوذ ذات العناصر المهيمنة على الحشد الشعبي. ولهذا فهي شجّعت على تطهير هذه المناطق من تنظيم داعش بيد رجال العشائر ومن المنطقة ذاتها ومن أبنائها.
وقد دعت واشنطن لاجتماعات بالتعاون مع دول خليجية ضمّت بعض رؤساء العشائر وضباط من العهد السابق وقياديين ومسؤولين سابقين، وانعقد قسم منها في الدوحة والقسم الآخر في نيجيريا، والهدف هو تشجيع أبناء هذه المناطق لمواجهة تنظيم داعش بأنفسهم، كما قامت بتسليحهم ودعمهم مادياً، وبالتالي إستبعاد عناصر الحشد الشعبي من التقدم باتجاههم، سواء فيما يتعلق بمعركة الموصل المحتملة والتي طال انتظارها أو في الطريق إليها، أو فيما يتعلق بالإقليم السنّي الذي لا تخفي واشنطن تعاطفها معه مثل الإقليم الكردي.ولتأكيد هذا التوجّه شنّت واشنطن غارات مكثّفة وغير مسبوقة على مواقع داعش في الموصل، بعد الحديث عن تدخل روسي، واستهدف التحالف الدولي من وراء ذلك قطع امدادات التنظيم القادمة من سوريا، وفي الوقت نفسه الاستفادة من الغارات الروسية على داعش، إضافة إلى تأكيد فاعلية التحالف الدولي، ولاسيّما في العراق. وكان اتفاقاً روسياً- أمريكياً قد تم التوصّل إليه يتعلّق بتنسيق علمياتهما العسكرية لكي يتم تفادي أي تصادم في الجو.
وإذا كانت ردود فعل التحالف الدولي وعدد من البلدان العربية، وخصوصاً دول الخليج، حادة ومتشدّدة ضد تشكيل الخلية الاستخبارية الرباعية وضد التدخل الروسي، فإن مواقف القوى العراقية تباينت بشأنهما، فإقليم كردستان لم يعلّق على موضوع الخلية الرباعية، سوى إنه لم يطلعه أحد، وبالتالي فهو غير معني بذلك، وركّز على تعزيز تعاونه مع التحالف الدولي، في حين إن أطرافاً عراقية عارضت ذلك، لاسيّما القائمة العراقية والجماعات السنّية بشكل خاص، بل وحذرتها منه ، لكن قوى الحشد الشعبي والشيعية السياسية رحّبت بالعلاقة مع روسيا.
وكانت موسكو قد دعت على لسان الجنرال الروسي كارتابولوف، واشنطن إلى التعاون في إطار مركز التنسيق في بغداد، لكنها لم تتلقَ جواباً. وحتى الآن فإن الموقف العسكري لا يزال غامضاً، ففي حين تقول بعض المعلومات إن الموقف غير متحرّك في الأنبار، يأتي وزير الدفاع خالد العبيدي ليقول أن القوات (العراقية) تقترب من الانتهاء من عمليات تحرير الأنبار، ولكن في الوقت نفسه لفت الانتباه إلى معركة تحرير قضاء الشرقاط (صلاح الدين ) تحتاج إلى الوقت لتفادي الخسائر البشرية والمادية.
لقد شهدت القوات العراقية قبل أكثر من شهرين انتكاسة عسكرية في الرمادي (مركز محافظة الأنبار) التي سيطرت داعش على كامل مناطقها ومنذ ذلك التاريخ والوعود كثيرة بتحريرها حتى إن هادي العامري رئيس الحشد الشعبي قال: إنه سيصلّي (في العيد) في الفلوجة، وتشير بعض الوقائع إلى أن هذه المعارك تقترب من معارك جرف الصخر (شمالي بابل) والكرمة، لتأمين حزام بغداد ومحيطها، والاستمرار في تضييق الخناق على الفلوجة أحد أهم معاقل داعش سياسياً ومعنوياً، تلك المعارك التي أخذت وقتاً طويلاً.
لعلّه من السابق لأوانه القول إن معارك الأنبار وصلاح الدين ستحسم قريباً، سواء من الأمريكان أم الروس وأن العدّ العكسي لداعش قد بدأ، وذلك لتعقيدات الصراع في المنطقة واختلاط الكثير من الأوراق فيه عربياً وإقليمياً ودولياً، وغياب رؤية وإرادة سياسية عراقية موحّدة.
مقالات اخرى للكاتب