يقول جبران خليل جبران: "مأساتنا أننا؛ نتزوج ولانحب، نبني ولانتعلم، نصلي ولانتقي، نعمل ولانتقن، نقول ولانصدق". قطعا ليس بالضرورة أن يكون كلام جبران هذا صحيحا مئة في المئة، فهي وجهة نظر فيها قدر من الصواب والخطأ الى حد ما، كذلك وجهة نظري فيما ذهب اليه جبران، فهي الأخرى قد لاتعدو كونها رد فعل من منظار ضيق، أفضت اليه تراكمات الأفعال والأقوال والأحداث التي تداولت ناظري وسمعي وإدراكي، وهي التي دعتني الى استذكار مقولة جبران هذه. وليس بجديد قولي أننا كعراقيين نأكل أكثر مما نتج، ونتكلم أكثر مما نفعل، بل أن فينا من يتقول حيث لايجيد القول، ومن يتمنطق وهو ناءٍ عن المنطق السوي كل النأي، والأدهى من هذا أن فينا من يدعي الحق وهو عين الباطل، وفينا المرائي المتصنع الذي ترتسم على سيماه معاني التقوى والورع، فيما يحوي باطنه من الموبقات أشنعها، ومن الأباطيل أرذلها، وفينا وفينا وفينا...
وحقيقة لاتخفى على أحد، أن الحال في عراقنا الجديد لم تتغير عن عراق ماقبل التغيير إلا نكوصا وترديا، إذ تفاقمت السلبيات الى أضعاف مضاعفة، وقد توهمنا أن التغيير سيأتي بالجيد والسمين، بعد أن أزيح الغث والهزيل، فإذا بالأوضاع تنزلق الى مهاوٍ خطيرة عاما بعد آخر. وكما يقول الشاعر:
حتامَ أخرج من ياس الى ياس
وكـم أذوق وأبقى طافح الكاس
لاأبلغ الذروة العليا على قدمي
حتى أنكّس للوادي على راسي
نعم، هذا هو ديدن العراقيين اليوم، فما خرجوا من مأزق إلا ولجوا بأضيق منه، وما انزاحت من فوقهم غمة إلا وحلت عليهم غمات ونقمات وكوارث، أما أولو أمره فهم في وادٍ غير وادي شعبهم يعمهون. وكم شرخت أسماعنا دعوات الى الشفافية والمصداقية، فإذا بالتحايل والمكر يصبح سنة متبعة عند السابقين من الساسة، توارثها اللاحقون منهم. وكم نثروا لنا ثمارا في عرض البلاد وطولها وقالوا أنها ستينع وتنعمون بما لذ وطاب، فإذا بنا نأكل الحنظل ونعبّ من أصناف مر الشراب عبّا، وطالما فرشوا لنا الورود في طريقنا الى صناديق الاقتراع، ولكن أرض الواقع انقلبت شوكا بعد تقسيم المناصب وتحاصص الفوائد والغنائم. وكم وُعدنا بغد أفضل ومستقبل مشرق زاهر زاهٍ، وهانحن نجني بئس الوعود وشر ما تأبطوه لنا. وقد خدعونا بفتات من الحرية المزعومة، بعد سني الجور والقمع والكبت، وبكم ضئيل من الديمقراطية التي حرمنا النظام السابق من العيش في كنفها، وقالوا هم أزلامه وبقايا أيتامه يضعون العصي في دواليب عجلتنا، وسرنا على مضض في عجلتهم التي منوا علينا بها، وتدحرجنا في أودية كادوا لنا فيها شر المكائد، وتصيدوا في عكر مياهنا ماخف حمله وثقل، وما غلا ثمنه وما رخص على حد سواء، ولم يبقوا لنا من الخيرات ما يحلم به المحروم دون حد الكفاف.
أما أرضنا..! فهي الأخرى لم نسلم على مساحات شاسعة منها، فالغفلة والتهاون واللامبالاة، زامنها التواطؤ والخيانة والغدر، كانت خير سلاح سلموه بيد المتربصين بالأرض والعرض والزرع والضرع والأخضر واليابس، فأتوا عليها كلها بشهية مفتوحة ونهم مباح، وكيف لا..؟! وقد فتح لهم أرباب الحكم في البلاد الاحضان قبل الأبواب على مصاريعها، فاستحلتها العصابات قبل عام ونصف، واجتاحتها دولة قبل أيام، ومن يدري من سيخترق حدودنا بعد حين؟! بعد هذا كله، هل أنا متشائم؟! وأين دواعي التفاؤل؟ أرشدوني..!
مقالات اخرى للكاتب