من المؤسف حقا ان لا يستطيع انسان هذا العصر حماية نفسه في السلم من الحرب وفي الحرب من خرق قوانينها وتقاليدها، ولكن ليس على سبيل الاطلاق النظري على نحو خاص بل في سياق المواجهات الحاسمة بين السياسات المتضادة او المتناقضة. اما تحت سياسة فرض الهيمنة او الاحتلال فعلينا ان نتوقع ذلك تماما في مواقع الامر المتحقق وليس في نهج الدول المرجح.
والحرب قرار، والحرب انواع كثيرة، والحرب مستويات عديدة، والحرب بداية ونهاية، والحرب خسارة في الاكثر وربح في القلة والمحدودية، وكل ما يقال في هذا الصدد يمكن عده ضمن قوانين دولية تنظم تحت الممكن، او وضعه في درجة الجواز او المحتمل.
ولكن هناك قوانين دولية تنظم المواجهات القتالية العسكرية وترتب التعامل مع الانسان والمنشأت والحضارة والتراث والاقتصاد على وفق قواعد يتعين على الجميع احترامها. واذ وقعت الدول موافقة على الكثير من هذه القوانين قبل الحرب العالمية الاولى وبعدها ثم قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها فقد بات واضحا محتوى هذه القوانين على نحو واسع النطاق برغم شدة انجازه، اذ ليس هناك من لا يعرف تحريم استعمال الاسلحة المتطورة في قضية سهلة او ليس هناك من يجهل التمييز بين الانسان المدني والعسكري في المواجهة، وليس هناك من يغفل عن استثناء الاطفال والنساء والشيوخ من الاذى العسكري المباشر، وليس هناك من لم يسمع برعاية الاسرى والتعامل معهم حسب قوانين انسانية خاصة، واحسب ان ليس هناك من لم ير نقيض كل ذلك على الشاشة الصغيرة في نشرات الاخبار الوطنية والعربية والدولية في اكثر من دولة وفي اكثر من منطقة اقليمية او قارية وفي اخر المطاف في العالم المعاصر.
لا نريد البحث في الاسباب، اذ هي مقدمات، بل نود الاشارة الى النتائج اذ هي مرئيات وملموسات، وابتعادنا عن الاسباب مؤقتا ليس عجزا او هروبا من مواجهة التحليل المطلوب، بل لتأكيد صورة المتحقق عبر النتائج على نحو راسخ وواضح وسريع اولا، فالحقيقة المرعبة هنا ان ضحايا هذه الخروق هم من كل الاجناس والاعمار والجنسيات والاعمار والجنسيات سواء في الاعمال الحربية الساخنة ام في محاولات الخطف والاغتيال الفردية ام الجمعية المنظمة باتقان. هذه هي النتيجة المباشرة الخاضعة للاحصاء والتحليل الاحصائي لمن اراد المتابعة والبحث، الا اننا هنا نضيف النتيجة الاكثر رعبا ليتبين القارئ خطورة هذه النتيجة على مستقبل الانسان، لان تكرار خرق السلام بالحرب وتكرار خرق قوانين الحرب وتقاليدها بوحشية وقسوة وبطرائق مبتدعة يعني ان تغيرا نفسيا وسلوكيا حصل ويحصل باطراد في شخصية الفاعل مهما كانت هويته او جنسيته، وهذا التغير النفسي سلوكي يولد الرغبة في تكرار احيانا من دون سبب، واحيانا بدافع الانتقام او الثأر، وبمضاعفة الفعل ورد الفعل، او الاجراء والاجراء المضاد، يصير القتل البشع والتمثيل الوحشي سلوكا عاديا لا يعقبه شيء من تأنيب الضمير، ولا يتلوه شعور بالندامة، حتى اذا توقفت الاعمال العسكرية الكبيرة بفعل تأثير دولي او اقليمي، اختزنت هذه المشاعر المتناقضة في الرؤوس المتقابلة انتظارا لفرصة او مواجهة قادمة.
يبدو هذا المنطق صحيحاً حتى الآن في المحافظات العراقية المنتفضة، ما نراه في محافظة الانبار الآن فانه مرشح لتبؤ هذه النتيجة المأساوية بعد حين، ومثل هذه الحروب او الصراعات بين الطوائف، فأنها قدتخاف شيئا من المرارة في هذا السياق الا انها لا تعاني خسائر الضحايا قتلا والاقتصاد تدميرا فحسب، بل من مسألة غسل ادمغة البشر لانهم سيصبحون عنصرا مختلا في العقلية والسلوك ازاء مجتمعهم ووطنهم وربما مع اسرتهم ايضا وفي ذلك كلفة غير منظورة وعالية نسبيا حتى يمكن اعادتهم الى انسانيتهم السوية برغم سلامتهم البدنية العامة. اما اذا تفحصنا اسباب تطور الامور الى الدرجة التي اخترنا لها هذه المحافظات العينة فاننا لا نستطيع وضع تطور هذه الامور تحت مظلة العفوية او التلقائية الحديثة على الاطلاق بل لابد من تغذية نفسية ارتجاعية من طرف ثالث قد يكون في الداخل وقد يصير في الخارج. ولكن اذا عرف (الاثر والمؤثر) سهل التعامل مع الاحداث ولو طال المدى وهذا ما يذكرنا باحداث (لبنان) وما ألت اليه فيما بعد من استقرار مقبول ومتوازن . الا ان الذي يجري في عراقنا يستوقفنا تماما لكي نتأمل الاسباب والادوات والنتائج حتى اللحظة او حتى بعد عقد من الزمان مثلا ، ولا اظن ان الامر سهل في جانبه الوصفي او التحليلي الا انه ليس عصيا على المثقف الحصيف اذا اتيحت له معطيات الواقع الاجتماعي على نحو خاص ثم الواقع الاقتصادي فالسياسي، اذ ليس من الموضوعية في شيء فصل هذه العناصر، بعضها عن بعض، وان جاز تقديم بعضها على بعض للوصول الى الحقيقة الصارخة في العراق.
مقالات اخرى للكاتب