بدءًا سأعود بذاكرتي الى يوم 12 آذار من العام المنصرم زمانا، وفي بغداد مكانا.. ذاك اليوم الذي عقد فيه مؤتمر حضرته أكثر من أربعين دولة عربية وأجنبية، وكان تحت مسمى (المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب) والذي اتخذ لاحقا صفة الدورة الأولى، إذ قرر المجتمعون بعد انتهائه أن لهم عودة ثانية للاجتماع، وقد تمخض المؤتمر آنذاك عن بشائر أفرحت العراقيين كثيرا، وبعثت الأمل من جديد الى نفوسهم بأن الفرج قد لاحت بشائره، والهموم التي تراكمت على صدورهم سنوات بل عقود آن أوان انزياحها، فالحصيلة التي خرج بها المؤتمر حينها، كانت مشتركة بين الدول المشاركة كافة، إذ اتفقت بالإجماع على العديد من الفقرات، منها ضرورة التعاون وتفعيل الحوار السياسي بين الكتل والأحزاب المتناحرة في الداخل، وتركها خلافاتها وتناحراتها جانبا، والالتفات الى ماهو أجدى وأنفع للفرد العراقي وللمجتمع برمته. أما مايخص الدول التي -يقال- أنها حاضنة للإرهاب، فقد وقفت دول عديدة موقفا مشرفا، وأجبرتها على الانصياع الى مقررات المؤتمر، بالكف عن إرسال عناصر تمارس عمليات التفجير والعنف داخل المحافظات العراقية، كذلك حثت على تشديد مراقبة الحدود، وتعهدت بتزويد المؤسسات الأمنية والعسكرية العراقية، بأحدث التجهيزات والآليات والإمكانيات التكنولوجية الدفاعية لمواجهة العمليات الإرهابية، فضلا عن تدريب القوات العراقية بصنوفها كافة، على الوسائل الحديثة في كشف وتعقب كل ما له صلة بالارهاب.
وبعد ذاك اليوم بأشهر ثلاث، أبدت 125 دولة موافقتها رسميا على حضور مؤتمر مكافحة الإرهاب في بغداد بدورته الثانية الموعودة، وهذا أمر يدعو الى تجديد الأمل للمرة العاشرة والعشرين والألف لدى المواطن، لاسيما وهو الذي ناء بحمل لايطاق، كان قد فرضه على عيشه نظام قمعي دكتاتوري دموي، لم يكن بالمتوقع او المنظور انقشاعه من سماء البلد بتاتا. ورغم تآزر الدول مع العراق ووقوفها موقف الساند في محنته، إلا أن هناك مايدعو العراقيين المثقلين بالإحباطات الى التحسس والتوجس من اجتماعات ومؤتمرات مثل هذه، رغم النجاحات التي تحققها عالميا، وآخر هذه المؤتمرات مادعا اليه رئيس برلماننا الجبوري قبل أيام. فدعوته لعقد مؤتمر دولي لدعم العراق لاأظنه سيأتي بجديد من الدول المشاركة فيه، وإن أتى بجديد فهو طرح وعرض واقتراح ومساهمة لاأكثر، أما الدور الأول والأخير والجوهري والفعال والمؤثر فهو لساسة البلد وقادته، وهو قطعا -الجبوري- على رأسهم. والحق يقال، ماأروع عبارته التي نص فيها: "لابد من وجود استراتيجية سياسية جنبا الى جنب مع الاجراءات العسكرية لمواجهة الارهاب". وهو نعم التوجيه والتنبيه، ولكن بئس التطبيق والتفعيل..! إذ مافتئت استراتيجية ساستنا المؤثرين في صنع القرار يسير بعضها عكس بعض، وما نحى أحدهم منحى صائبا باتجاه حل لمشكلة أو سد لثغرة، إلا ونحى الآخرون عكس سيره تماما، وباتجاه يناقض ما أتى به ويصبو اليه.
وكما نقول في مثلنا: "أكعد أعوج واحجي عدل" فقد كان كلام الجبوري "معدّل" حين قال: "إن الكثير من الملفات العالقة تعيق جهودنا في مواجهة التحديات الامنية، والفاعلون السياسيون مطالبون بتقديم هذا الجهد والمضي بدعم الاصلاحات والمصالحة بالتوازي، وتعزيز فرص الثقة بين الاطراف من خلال المبادرات العملية". أعود وأقول نعم الطرح ولكن بئس متلقيه، فأغلب ساستنا يتلقون النصح والتوجيه بعين الكبر والاستعلاء تارة، وتارة بعين اللامبالاة والتغافل والتماهل، وتارة ثالثة بعين العمد والقصد ومداراة المصالح الشخصية والفئوية، وهذا ما تسبب في تداعي الهفوات الصغيرة الى أخطاء كبيرة، يصعب معها التصحيح وتتعقد الحلول، فحين يكبر الفتق يتعذر الرتق. أما مطالبته -الجبوري- الفاعلين السياسيين بالمضي بدعم الإصلاحات، فأظنها مطالبة سبق أن ذُكر مايشبهها في شطر الدارمي: لاتطلب الحاجات إلا من اهلها..!
مقالات اخرى للكاتب