الأحزاب العربية ربما لا تمتلك قدرات ومهارات التعبير السياسي عن مبادئها , وإبتكار الصيغ المعبرة عنها في الواقع.
ولهذا فأنها وبلا إستثناء , شهدت فشلا مروعا , وعلى مدى عقود القرن العشرين ولا تزال في متوالية الفشل الوخيم.
لا فرق بين أحزاب دينية أو علمانية في هذا المجال , فجميعها قد حررت شهادات فشلها , وبعضها حرر شهادة وفاته بنفسه.
وقد أمضت الأحزاب العربية العقود وهي تتحدث عن النظرية والتطبيق , وما استوعبت نظرياتها , ولا أوجدت آليات لتطبيقها , وإنما إتخذت من مبادئها وشعاراتها , أقنعة لتحقيق إنجازات عبثية ذات خسائر فادحة , على المستويات العسكرية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية.
وما يجري للأحزاب الدينية , لا يختلف عما جرى للأحزاب العربية العلمانية بأنواعها , وبكل مسمياتها , ونظرياتها التي أوجدتها من رحم الفراغ لا الحاجة.
والعلة ليست في الأحزاب فقط , وإنما في العقل , لأن الأحزاب تعبّر عن ذلك , فالعقل مكبل بأصفاد وثوابت تعيق قدرات الإبتكار , وتحويل الأفكار إلى صياغات عملية مثمرة ونافعة للأجيال.
فلا يوجد في تأريخنا المعاصر قائد قد برع , أو تمكن في تحويل أفكاره إلى منهاج عمل , أو مشروع مربح لوطنه وحزبه وشعبه , وإنما سقط الجميع في دائرة مفرغة من التفاعلات السلبية مع أبناء الشعب ذاته , والحزب نفسه , وما تمكن حزب واحد من حل إشكالية العلاقة مابين العقيدة والكرسي , وما بين المبادئ والسياسة , فكل حزب يحسب أن الحالة واحدة , فتراه يتحدث ويقرر وفقا لرؤيةٍ لا يستوعبها , ويمضي في صناعة الأعداء , وتنمية الفرقاء , وتأكيد الفشل , الذي يدفعه بعد حين , إلى الإستخدام المفرط للقوة والتفرد بالحكم والإستبداد , وتداعيات التفاعلات السيئة ما بينه وبين أبناء الشعب الواحد , لأنه قد إنزلق إلى توصيفات وتسميات , لتسويغ ما يقوم به من تصرفات لا تمت بصلة إلى مصلحة أي طرف , فتراه يتحول إلى قوة معادية لذاتها وموضوعها.
وما يتحقق في الزمن الديمقراطي العربي , أننا أمام مشهد الأحزاب الفاقدة للرؤية الموضوعية الواقعية , والمنغمسة في عقائديتها ومبدئيتها التي لا تتمثلها بعقل مفتوح ومتفهم , وإنما تتقوقع في داخلها , وتحسب أنها صاحبة القول الفصل , وغيرها ضدها أو عدو لها.
وبهذه العقلية البدائية لا يمكن إقامة أنظمة ديمقراطية , وتحقيق التقدم والرفاه الإجتماعي , وإنما ستساهم الأحزاب في دفع مصيرها ومصير الشعب إلى الهاوية السحيقة , المتأججة بالدمار والخراب والصراع حول مائدة الإنقراض والضياع.
والمشهد العربي برمته , مشهد عقائد ومبادئ مُتخيّلة , لا تمت بصلة إلى الواقع المعاش , ومنقطعة عن عصرها , ولا تعرف مكانها وتتجاهل أبعاد الزمن , ولا تقر بالحركة والتغيير الجاري على قدم وساق في هذه الدنيا الدوارة.
وبسبب هذا الإنقطاع الشامل , تتحقق حالة من الغثيان السلوكي المُعبَّر عنه بالتداعيات المريرة , بدوائرها المفرغة الحامية الوطيس.
فهل ستستطيع الأحزاب العربية بأسرها , من الوصول إلى حالة النضج الحضاري , لكي تتمكن من تحويل أفكارها إلى صيغ دستورية وقانونية , ذات إنتاجية حضارية متوافقة وإيقاع العصر , أم أنها ستبقى منزوية في صناديق أوهامها , التي تحسبها نظريات وعقائد تقدمية , وما هي إلى غير ذلك تماما؟!