عند تخرجي من الدراسة الاعدادية عام 1998، قررتُ انا وثلاثة من أصدقائي أن نكمل دراستنا في أحد معاهد العاصمة بغداد.
كانت عيوننا ترنو صوب ثلاث خيارات هي معهد النفط ومعهد الإتصالات والمعهد العالي للصناعات الحربية, وكان سبب إختيارنا لهذه المعاهد كونها تعطي راتبا للطالب الدارس فيها وكذلك فإن التعيين بعد التخرج منها مضمون وبوظائف ورواتب مجزية كنا نفكر إنها ستنتشلنا وعوائلنا من الواقع الفقير الذي كنا نعيشه.
سافرنا نحن الأربعة الى بغداد وكلنا امل وتفاؤل، ورسمنا في مخيلتنا احلام كبيرة, للارتقاء بواقعنا وكيف اننا سنتمكن من تخليص عوائلنا من الفقر ومساعدتهم من خلال ما سنتقاضاه من رواتب وحوافز والتي سنجنيها بعد اكملنا الدراسة، واتذكر ان احد اصدقائي قال وهو منتشي "سنعين اهلنا ونرجع لهم حتى اجرة السيارة التي اخذناها منهم لهذا السفر".
وصلنا إلى بغداد باكرا وكانت وجهتنا الأولى معهد النفط وزامن وصولنا المعهد بداية الدوام, وشاهدنا طابور من الطلبة جائوا ليقدموا مثلنا، الغريب ان أغلب المتقدمين كانوا ينظرون لنا بازدراء, فملابسنا وقصات شعرنا كلها كانت تدل على إننا محافظات –كما كانوا يسموننا في تلك الفترة-، حاولنا ان نستفسر من الموجودين عن كيفية التقديم وكلنا خوف وارباك لما شعرناه من غربة, حتى وصل الشك بنا بأننا لسنا من هذا البلد.
بعض المتقدمين من رحب بنا لأنهم من اصول جنوبية، وبعضهم أستهزئ بنا وبسؤالنا لأنه ابن رجل في دولة البعث ومن المنطقة الغربية أيضا.
بادرنا هؤلاء –الذوات- بأسئلة زرعت الخوف في نفوسنا، فسألونا لماذا اتيتم الى بغداد؟ ! ماذا تريدون؟، وكان أغرب سؤال سمعناه منهم والذي فاجئنا جدا، والسؤال هو كيف تتنقلون بين بيتوكم في الجنوب؟! وكان يظنون إن المحافظات الجنوبية عبارة عن مستنقعات مائية لا توجد فيها طرق ولا وسائل نقل، وظنوا أننا نسكن في الاهوار ونتنقل بالزوارق من مدينة الى اخرى وحتى بين البيوت.
فُتِح شباك التقديم في معهد النفط، وكانت هناك موظفة تستلم الطلبات من المتقدمين، وحين وصل الدور الى صديقي الذي يقف امامي اعطاها طلب التقديم والمستمسكات المطلوبة، ارجعتهن إليه وبقسوة, دون ان تشرح له السبب, -علما انه من اصحاب المعدلات العالية- فجادلها سائلا؛ لماذا لم تقبلي طلبي اسوة بباقي المتقدمين؟! فتجاهلته بكل وقاحة, وعند تكرار السؤال جرحته بإجابتها قالت: (نحن لانقبل المحافظات)!، فحدث جدل بيننا وبينها، وقلنا لماذا لا تقبلونا أ لسنا هذا البلد؟! ونتيجة لإلحاحنا مكروا بنا وحاولوا اسكاتنا واقالوا سنضعكم في الملحق.
بعد هذه الصدمة يممنا وجهنا صوب معهد الاتصالات في العلاوي وكان الوضع هناك اسوء مما شاهدنا في معهد النفط, حيث أُوصِد شباك التقديم بوجوهنا, فحاولنا فتحه بالقوة، فقال موظف التقديم انصحكم بالذهاب الى محافظاتكم, لأنكم لا يحق لكم التقديم, وهذا امر من جهات عليا في الدولة ولأسباب أمنية.
رغم قساوة ما شاهدناه إلا إن الامل كان باقٍ في قلوبنا فتوجهنا نحو معهد الصناعات الحربية التابع لهيئة التصنيع العسكري, فتفاجئنا بأن الباب مغلق ولا يسمح بالدخول الا لمن لديهم موعد مسبق، حيث رأينا بأعيننا ابناء البعثيين وازلام النظام المجرم يدخلون بكل احترام ونحن واقفين على جانب والكل بنظر لنا وكأننا من كوكب آخر.
قررنا الدخول بطريقة أو بأخرى ونجحنا بالفعل في الدخول, وذهبنا الى الموظف الذي يستلم الطلبات, وعندما وصلنا له صاح بنا بوجهنا وبقوة, كيف دخلتم ومن ادخلكم؟، اذهبوا والا أبلغت الأمن ليأخذوكم، تملكنا الخوف لما نعرفه من سطوة الأمن, لكننا جادلناه وما هي الا لحظات وجلاوزة الامن يحيطون بنا، ألقوا القبض علينا واخذونا الى مسؤول الامن في المعهد، كانت لحظات لا توصف كلها خوف واهانه، سألنا مسؤول الامن من اي محافظة انتم؟ ومن اي مدينة؟ قلنا له نحن من ذي قار ومن مدينة الشطرة، فتبسم –فقلنا في انفسنا هل يا ترى لم يصدقنا ام لم يسمع بمدينتنا- فقال سوف اقول لكم الصراحة شرط ان تعاهدوني بان ترجعوا الى مدينتكم؟، فمع ما كنا نشعر به من خوف اجبنا بالقبول, قال انا كنت مسؤول في ذي قار, واكلت من سمك البدعة الشهير، اعلم انه لا يحق لكم ان تقدموا على المعاهد في بغداد لأنكم محافظات والتقديم فقط لأبناء الغربية وبغداد.
عدنا ادراجنا وكلنا خيبة امل, وقد ضاع مستقبلنا الدراسي, بسبب سياسة رعناء همجية كان يدار بها البلد، كنا نفكر ماذا سنقول لأهلنا لو سألونا ماذا سنجيب أصدقائنا.
هكذا نظام صدام كان يدار به العراق يفرق بين طالب واخر بسبب الانتماء العقائدي او الجغرافي, وكانت المعاهد والمناصب المهمة للبعثيين واولادهم فأي عدالة تلك التي يتكلم بها بعضهم والذين صدعوا رؤوسنا بعبارات "جيل الطيبين" والزمن الجميل"؟! .
ما يحز بالنفس بعد الخلاص من النظام العفلقي البائد يأتي اليوم ويقولون ويقارنون ان ذاك النظام كان افضل اي افضلية اي حكم الذي ظلمه طال حتى الاطفال، طلاب المدارس، واليوم اي طالب يحقله ان يقدم على اي جامعة او معهد داخل العراق وخارجه في بغداد او محافظة ثانية لا احد يقول له انت من طائفة ما او محافظة اخرى، على من يفضل حكم المقبور نقول له انه لايعود ابدا لأنه ظالم جائر دكتاتور لايقبله اي عقل في الدنيا، ومن اراد العيش الكريم، هيهات ان يخضع.
مقالات اخرى للكاتب