يرث الابناء التركة عن آبائهم، وترث الحكومات انجازات التي سبقتها، وفي الحالتين نجد البعض ينمي التركة ويوسعها فيما يتكئ آخر عليها ويبددها يمينا وشمالا، العتب على الحكومات أكبر بكثير من الاشخاص، كونها تدار بعقول كبيرة ومؤسسات متنوعة، كما انها تلزم نفسها بعهود ووعود كثيرة وكبيرة، وحين تستفيق من سباتها تحت ضغط شعبها، ترسم خطوطا لتعديل مسارها وتعويض ما فاتها، و هنا يكون الجهد مضاعفا ان ارادت الإلحاق بركب البلدان، والفجوة تكون كبيرة، فخراب السبات يكون قد عم الامكنة. واكثر ما تعاني المعالم التراثية مقارنة بالأبنية الحديثة، فالتوقف عن ادامتها وترميمها يفقدها كثيرا من قيمتها، ولا يجعل منها صروحا يقصدها الزائرون من بقاع المعمورة، يتنسموا منها عبق الماضي الجميل.
جسر باب سليمان الخشبي الواقع على النهر الرئيس المتفرع من شط العرب الذي يتوسط مركز قضاء ابي الخصيب جنوب مدينة البصرة، أحد الصروح الاثرية المهمة لما له من اهمية تاريخية ومكانية، فقد بناه العثمانيون قبل دخول الجيش البريطاني البصرة سنة 1914 بسنوات، مرت من تحته آلاف الزوارق والسفن الصغيرة المحملة بأجود أنواع التمور من البساتين الممتدة على جانبي النهر ايام كانت التمور العراقية تنافس الصادرات النفطية في ايرادات العراق .
الجسر صمد لسنوات طويلة رغم الاهمال، لينتهي به المطاف تفكك مساميره وتساقطت أجزاء من قطعه الخشبية في الماء، الحكومات الاخيرة المتعاقبة لم تحرك ساكنا، على الرغم من قيمته الاثرية أضافة للمكانية ، فأطفال مدرسة باب سليمان القريبة في ذهابهم وايابهم صاروا مضطرين لسلوك الطريق البعيد والعبور الى مساكنهم عبر الجسر الكونكريتي المكتظ بالسيارات ووسائل النقل الاخرى، ما يعرض حياتهم حتما للخطر، استغاثة أهلهم لم تجد من يصغي لها والجهات المعنية لم تحرك ساكنا، فبدأت تتضاءل شيئا فشيئا فسحة الامل، واستسلموا لواقعهم المرير، ويتوجسون على ابنائهم خيفة في ذهابهم وايابهم .
عبدالرزاق الحمد من الرجال الطيبين لقرية باب سليمان القريبة ، لطالما عرف بحبه لعمل الخير، كان قد أدخر مبلغا من المال ليحج به مع ام ابنائه بيت الله الحرام، شاء القدر ان لا يفوز بقرعة الحج، فقرر انفاق ما جمعه لبناء جسر حديدي متين فوق الجسر الخشبي كصدقة جارية ينتفع بها المتضرر من انهيار الجسر الخشبي.
فهو يرى أن المحافظة على حياة اطفال المدرسة، وتخفيف العبء عن الناس شكلا من اشكال العبادة ، ما قام به عبدالرزاق يضطرني للمقارنة بين قول الناس والعمل، وبين العبادات والمعاملات، اجد من المؤسف هناك الكثير من المتدينين او مدعي التدين مقتدرين ولا يملكون روح المساعدة والمشاركة، فنجدهم ساجدين راكعين، لكن معاملتهم تتنافى مع روح الدين وقيمه الحقيقية ويعيشون تناقضا عجيبا، لا يمتلكون روح الايثار والتضحية، ولعل ما نشهده من خلافات كبيرة بين الاخوة على الميراث وميل بعضهم لمصلحته أحدى تلك الصور، في ظني أن هؤلاء من اعداء الدين، يشوب الصورة النقية للدين، ويظن البعض متوهما ان هذا هو الدين.
لو ان عشرة بالمئة من الميسورين انقفوا جزءا بسيطا من اموالهم لصالح مشاريع بسيطة ذات نفع عام لصرنا في حال أفضل، لاسيما اننا نعيش ازمة اقتصادية خانقة وتلازمنا الأزمات نتيجة ضلالات انحياز الكثيرين للهويات الفرعية، والمؤسف أن هذه الازمة الاقتصادية الاخيرة وفرت لافتة عريضة وكبيرة أختبأ خلفها المسؤول عنوان اللافتة كبير يقول: اصبروا على البلاء لحين تحسن اسعار النفط، يبدو ان مسؤولينا لا يعنيهم اجر عمل الدنيا ولا سلامة الاطفال ولا يتركون لهم اثرا طيبا يذكره الناس لهم ويدعون لهم بالمغفرة، الدعوات جميعها ستكون حتما من نصيب عبدالرزاق الحمد وامثاله .
مقالات اخرى للكاتب