عندما يضيع الخيط والعصفور, وتنحرف البوصلة الإدارية نحو وديان وأد الكفاءات وتغيب في خنادق التغييب, تحدث الانقلابات الوظيفية العجيبة, فتنصهر المهارات والخبرات في أفران التهميش والإقصاء, وما هذه القصة المؤلمة, التي سنحكيها هنا إلا أنموذجا مؤسفاً للتقلبات الإدارية المزاجية في البلد الذي ستُطمس فيه عناوين الوظائف البحرية, ويغور فيه الخور والهور. .
من فيكم يصدق أن ملاحاً أكاديمياً, يحمل أعلى المؤهلات الملاحية, ولديه خدمة بحرية طويلة في عرض البحر تزيد على عشرين عاماً, يتحول بجرة قلم من (ملّاح) إلى (فلّاح) ؟. أي تحول خطير هذا الذي يجري عندنا بتعاملنا المربك مع قواعد التوصيف النوعي الوظيفي ؟, وأي مستقبل ينتظرنا ونحن نضع الملّاح في مكان الفلّاح, وننقله من البحر إلى البر ؟, ثم ما علاقة البحر بزراعة الجزر والبنجر ؟, وما علاقة العمل في أعالي البحار بقطف محصول الطماطم والخيار ؟, وما هي أوجه التقارب المهني بين الملاحة والفلاحة, وبين الناعور والإسطرلاب ؟.
تبدأ حكايتنا العجيبة مع الربان العراقي (ضياء جعفر موسى صالح حمّاد), الذي تخرج في أكاديمية الخليج العربي للدراسات البحرية بدفعتها الأولى عام 1979, فحصل على البكالوريوس في العلوم البحرية, ثم حصل على شهادة التخويل الدولية للعمل في أعالي البحار, وتدرج في السلم الملاحي الميداني حتى عمل على معظم سفن شركة ناقلات النفط العراقية, رشحه العراق بعد ذلك للعمل على سفن ناقلات البترول العربية, انتقل بعدها للعمل في (عدن) على سفن النفط اليمنية. .
والشيء بالشيء يذكر أن أقرانه من الدفعة البحرية الأولى ارتقوا في عملهم إلى أعلى المناصب, ونالوا استحقاقاتهم الوظيفية على الوجه الأكمل, نذكر منهم الكابتن صلاح خضير عبود, الذي أصبح مديراً عاماً للموانئ العراقية, ثم مستشاراً تخصصياً في وزارة النقل, والكابتن عمران راضي ثاني, الذي أصبح مديراً عاماً للموانئ, والكابتن كاظم طاهر, الذي أصبح مديراً عاماً للنقل البحري, والكابتن رائد عبد الكريم الناهي, الذي صار مديراً للشؤون البحرية, والكابتن ظافر ياسين, الذي أصبح مديراً للتطقيم في شركة ناقلات البترول العربية, والكابتن عدنان محسن بدر, الذي كان مديرا لميناء أبو الفلوس, وربما تمتد بنا القائمة لتشمل عناصر الدفعة الأولى والثانية والدفعات اللاحقة. .
بدأ التعثر المفاجئ في مسيرة هذا الربان في اليوم الأول من الشهر العاشر من عام 2009, وهو اليوم الذي انتقل فيه مع مجموعة كبيرة من الربابنة والمهندسين البحريين من شركة ناقلات النفط العراقية إلى شركة نفط الجنوب, فجنحت سفينته على سواحل قسم الزراعة التابع لنفط الجنوب, وهو قسم صغير يعنى بتشجير وإرواء حديقة الشركة في البصرة, وهكذا وجد نفسه يجلس فوق العشب مع عمال الزراعة في ظل أشجار الكينوكاربس المحيطة بالحديقة الأمامية, وكان لزاماً عليه أن يتعلم كيفية التعامل مع سماد اليوريا, وتوقيتات السقاية, ومواسم التقليم والتطعيم, وحرث التربة وتقليبها, وكيفية مكافحة الحشرات والديدان المتطفلة على أشجار الزينة. .
مهنة جديدة نحو الأدنى انتقل إليها هذا الربان التائه, في خطوة مفروضة عليه, لم تخطر على بال حيتان التهميش, ولا على بال آفات التحشيش, فمن غير المعقول أن يتحول الملاح إلى فلاح ؟, وهل من المتوقع أن يحدث مثل هذا الانقلاب الوظيفي في موزمبيق أو كوالامبور أو الصومال أو جزر الواق واق ؟, لكنها حصلت معنا, وكانت سابقة عجيبة تدعو إلى السخرية والتندر, وربما تدعو إلى الصراخ والبكاء, وهذا ما آلت إليه أحوال رجال البحر في زمن التكنوقراط, الزمن الذي ينبغي أن نضع فيه الشخص المناسب في المكان المناسب. .
التقيت هذا الربان الحزين بالصدفة فوجدته شار الذهن, مشتت الأفكار, فاقد التركيز, لا يلوي على شيء, ولا يعرف كيف يتصرف, ولا يدري لمن يسرد قصته ويبث همه, والطامة الكبرى أنه تلقى خبر فصله من العمل, فطار صوابه, وفقد عقله, وخسر خدمته كلها, وخسر معها مستقبله, ولم يعد يحسن التفكير بعدما صدمه قرار الفصل من الوظيفة, ثم ما فائدة التفكير في البلد الذي يتحول فيه الملّاح إلى فلّاح. .
والله يستر من الجايات