ذات مساء حار رطب من صيف قائظ جلد ظهورنا في أواخر رمضان طاف بخاطري حاجتي الى ان اخلد الى النوم حين داهمني النعاس اتضوع رائحة البخور العابقة من فلاة المقابر القابعة على حافات المدن، تعج بشواهد القبور تلاشى معالم بعضها مع توالي السنين.. وارهقت النسوة في كبد على ما تعودن عليه في زياراتهن الطقسية كفرض عين في كل عيد لتثري المشاهدة الضاجة بالحنين الى من فارق قلوبهن حسرة يدفعهن الشوق الى قراءة البسملة وسورة من آيات يحفظنها عن ظهر قلب على الأرواح المهاجرة الى بارئها كذاكرة خطرات الأموات المستوردة بعباءة الرحيل، ويختالهن الصبر والسلوان في ممضة الفراق وعذاب مرير لم يبرأن منه. وادمن البكاء في نوح انثوي شفيف يسجر القلوب المعلومة بأسى الروح ويجهشن بدمع سخي في عزاء لم ينضب معين الرجاء، يلهجن بالدعاء في طلب الغفران فهذه المزارات اثقلت كاهلهن في ماضيها وحواضرها.. فاستيقظت على صياح الديك الصداح الذي غاب عنا منذ زمن كان فيه المؤذن الدائم، الذي تعود عليه القوم لتوقظ ناسا يغطون في نوم عميق وهذا ديدنهم الذي اعتادوا عليه حين الإقامة ويفيقون بتثاؤب في ثغر الفجر الناعس في تثاقل ومتكاسل وتبين ما راودني من ذلك في مساء حلم، فأي حلم هذا الذي يتناهى الى مسمعي بغتة وصوت المنابر تصدح للآذان لنستأنس بالصلاة فقمت اجوس البيت اتلمس حيث ذلك الضوء الباهت الذي يشع في فناء الدار والصادر عن ذبالة شمعة قادني بصري اليها في غدوه ورواحه الى حيث الطنابير نتوضأ بمياهها الطهوره ونهم بالاقامة. فأدركني هسيس الصباح يداهمني بصحوة ويقظة وبمخيلتي توقظني لادبار السجود لينقشع الفجر العاري من القباء وينحسر ويذهب بسكون الليل وسواده ويضمحل الظلام واستلقيت على السرير ليتملكني شعور فياض موشي بالمكابدة والآلام المريعة بصورة تأثيث ما فاتني من شهر رمضان على نحو مكنني من القول بصراحة تملؤها الخيبة وفكرت مليا وعزمت امري على المضي في كتابة ما سعيت اليه بعد ان انتظرت رسالة منه تعيد لي بعض الحياء من يأس وعذاب يعتمل في صدري لم ابرأ منه منذ بضع سنين. فخاب فألي بعد فوات الأوان وتساءلت مع نفسي التواقة الى من أحببت لم غبت عن البال فلم اجد فيه غير النكران؟ فارهقتني الأماكن القدسية والقبور الدارسة التي لا تخلو من ذاكرة فياضة بالوجع والحنين الى عمر استطعمته حنظلا ودفلى تجرعته بعد ان لاقيت من عنت الأيام ومجاهليها وتعلمت كيف ادجن الوحدة فغادرنا شهر رمضان وابتلت عروقه وثبت اجره، مودعا عسى الأيام ان تأخذنا الى سواء السبيل، لتطهر نفوسنا من رجس الشيطان والقلوب العامرة من أطماع الدنيا وشرورها.. هل كان موت الزوجة الذي انقض ظهري ايذانا بالقطيعة؟ كأن سنوات العمر التي مضت حملت معها غصة القلب وشهقة الروح، ذهبت ولم تعد الا في الذكرى التي هجرتنا ومازالت ذكراها تذبحني في مساء كلما استأنست نارها، لتحتشد دخاخينها تحت الجوف لتؤرق الدمع السخين وثكلتنا بعدها في رحيل، وماضيها المقدس في ذمة الخلود في محنة لم اكن راغبا فيها وكتبت علينا ان نتقلبها بقلوب واجعة راخية لامره صابرا محتسبا في عيون باصرة باكية على من رحلوا عنا دون وداع فأي اغتراب اقسى من هذا؟ واية منافي نحن فيها غرباء؟
واي وجوه اشد كلاحة وجهامة تغشاها؟ واي دنيا نصبو الى تحقيق ذواتنا فيها؟
فالدنيا فانية ومتسعها يضم الجميع وتبقى المحبة في الله اجمل ثوابت العمر.. فانت غير هؤلاء الذين باعوا امواتهم بحب الدنيا، واخرتهم بالمال وسلطانه ووجدوا بغيتهم في فتوى غمطت الحقوق وقرنت بكلمات رجل دين لم يجد ما يشفي عقله، من حقيقة الفعل وصدق القول ليطمأن به قلبه بعد ان بان ما كانوا يضمرونه في دواخلهم من احتيال السؤال الذي يراد به تدليس الحقيقة لتحقيق ما تصبو اليه غاياتهم.. فالانسان مجبول على ان يرى الحقيقة من خلال مصلحته في مباعة اخرته بدنياه ليخسرها معا وتركت اثارا لا تنسى الى اليوم.. فطاف في منامي رؤية او حلم ليس بنبوءة او طالع فنجان استدلالي برهاني استفاق من مرقده ليسهم في تأويل ما رأيته فهالتني الصور يبان فيها انجالهم في ثوابتهم مسربلين بثياب رثة يصرخون من سياط تتلذلذ بجلودهم الموجعة بالعذاب رجال يجلدون ظهور من خان الأمانة والتبس عليه الباطل برضا والضاربون يتمتمون بهمس هذا مصير كل افاك، بخس الناس اشياءهم من غير حق، وستدمى جوارحهم في دنيا تتناسل فيها الخطوب والرزايا والنكد ليبوؤا بغضب من غير ايحاء لمن شاهدته والسياط تلهب الظهور عسى ان نجد في ذلك سبيلا ولم ابرئ ذمتهم الى يوم يبعثون فالاخوة في الدين، والبراءة في الدنيا اجمل رضا فهل اجد متسعا في قلبك؟ الله اعلم!! لان الحاضر تنكر لقيم الماضي وتابوهاته ليبصق في وجهه بقلة الحيلة والحياء..
اسأل الله لي ولكم حسن الختام.
مقالات اخرى للكاتب