كشف نجاح روسيا بوقف العدوان الأميركي على سوريا، عن سقوط القوّة الأميركية الافتراضية. فأميركا فقدت قدرتها على امتياز شرطي العالم منذ تعميم رفض قوّتها الافتراضية في إيران، وأميركا اللاتينية، وفي أفغانستان والعراق ولبنان… قبل أن يصل اليوم إلى روسيا ودول «البريكس»، وبات الرفض ثقافة سياسية عالمية عامة حتى في أميركا وأوروبا، عدا قلّة من الذاهبين إلى الحج وقت عودة الحجيج.
في حقيقة الأمر، فقدت أميركا قدرتها على الترهيب العسكري في التدمير الشامل الذي تميّزت به منذ معركة الحلفاء في «النورماندي» الفرنسية، ولم يعد بوسعها أن تبقى على أرض المعركة حتى في الصومال. وفي مجال الاستخبارات، وهي قوّة الامبراطورية الضاربة في الانقلابات العسكرية، لم يعد عسَسُها سلطان التجسس الآمر الناهي، إنما باتت أميركا تعتمد أكثر فأكثر على «المعلومات» الاسرائيلية في الملفات الحيوية (أسلحة الدمار الشامل في العراق، الملف النووي الإيراني، السلاح الكيميائي في الغوطة، ليبيا والسودان وأميركا اللاتينية وأفريقيا و…) وبدورها تتعمّد هذه «المعلومات» تضليل أميركا أو تعجز عن اختراق التحصينات المعنية باكتشافها. (منظومة حزب الله الصاروخية، طرق الإمداد وخنادق الجبهة على بعد امتار من الحدود…).
إنما التشكيك بالقوّة الافتراضية الأميركية بين الأجهزة الأمنية والعسكرية في أميركا يعود إلى عشر سنوات مضَت، تتوّجت بتقرير وكالات الاستخبارات (غلوبيل تريندز ــ 16 وكالة) تحت عنوان «الاتجاهات العالمية ــ 2030، ك1 ديسمبر 2012». وعلى هذا الأساس رسا «مبدأ أوباما» على ما سمّي «استعادة التوازن» في الاستدارة نحو المحيط الهادئ حيث القوّة البشرية موازية للقوّة الاقتصادية الصاعدة، على حساب عالم متقادم كان يتكوّن قطبه المحوري من أميركا وأوروبا في الأطلسي. في هذا السياق ونتيجة عجز القوّة الأميركية الحقيقية عن الاستمرار في دور شرطي العالم، رسا «مبدأ أوباما» على «الانسحاب» من الشرق الأوسط والاكتفاء بإدارة الحروب بالوكالة، بحسب توصيات التقرير السابق وأهمها تعزيز أجهزة «مكافحة الإرهاب»
. (ارتفعت ميزانية وكالة السي آي إي وحدها من 4,8 مليار $ إلى 14,7 مليار $ منها 2,6 مليار $»لبرنامج العمليات السرّية»). أبعد من ذلك بات التشكيك في القوّة الافتراضية الأميركية ثقافة عامة في أميركا وأوروبا بين العديد من النخب المستقلّة عن الأجهزة الحكومية والمؤسسات الدوليّة، وبين العامة التي يطغى عليها اليأس والخوف، فتتجه نحو الانفصال والانعزالية أو نحو الشوفينية والفاشية. فالتحوّل الذي دفعت به أميركا في أواسط التسعينيات من النموذج الرأسمالي التوسعي (الإمبريالي) إلى النموذج النيوليبرالي المعَولَم (جولة مراكش لمنظمة التجارة العالمية العام 1994)، سعياً إلى عولمَة نموذجها في حرية الرأسمال، ارتدَّ سريعاً بتهميش مجمل الفئات الاجتماعية ما دون زبائنية الشركات متعدية الجنسية في العالم، ومن ضمنها الغالبية الساحقة في أميركا وأوروبا. فهذه الغالبية التي فقدت السلطة الموازية (دور الأحزاب والنقابات والجمعيات… في حماية الحقوق) في مواجهة السلطة الحاكمة، لم تُسعفها تعاويذ صناديق الاقتراع في وقف جموح السلطة المنتخبَة لتشجيع حرية الرأسمال على نهش الحقوق الديموقراطية.
في هذا المسار لم تكن أزمة المواد الأولية العام 2008 وأزمة الرهون الملوّثة العام 2010 أزمة مالية عابرة، إنما هي أزمة نموذج لم يظهر منها غير رأس جبل الجليد الذي ما زالت تغطّيه الثقة المعولمَة بمعجزات المنظومة النيوليبراية الافتراضية. فالرأسمالية تكتشف دوماً حلولاً سحرية لأزماتها، على ما يقول دعاة الثقة بالنموذج.
والحال، يبقى لأميركا بين أهمّ قواها الفعلية، قوّة عولمة النموذج النيوليبرالي في تشابك المصالح والطموحات بين المستفيدين في العالم من ريع حرية الرأسمال في السوق الدولية. وهذا التشابك في المصالح دفع مجمل المستفيدين لشدّ أزر قلب النموذج في أميركا خشية غرق سفينة «نمو» الاقتصاد الوهمي. (دعم الدولار بما يُسمى الصناديق السيادية الصينية والهندية والسعودية وغيرها، وتغطية الديون الأميركية البالغة كل طالع شمس 3 مليارات دولار) ولا يَحُول هذا الأمر، بطبيعة الحال، دون تغيير المواقع بين ركاب الدرجة الأولى والدرجة الثانية بحسب موازين القوى، على حساب حقوق باقي خلق الله من المتضررين وهم الأغلبية الساحقة في الكون، وعلى حساب تبديد ثروتهم وثروة أجيالهم في الأرض والمياه والمناخ والبيئة… ففي «بطرسبورغ» لم يُولد نظام عالمي جديد كما يُشاع تسرّعاً على خلفية وقف العدوان على سوريا، ولا «تعدّدية قطبية» بنماذج متضاربَة. إنما وُلدت في «بطرسبورغ» موازين قوى جديدة في المنظومة الدولية بحسب القوّة الحقيقية لكل منها، حيث تستند إيران إلى قوّة حربية رادعة، وتستند دول «البريكس» (تأسست العام 2009 بمبادرة روسية) إلى قوّة صاعدة وطموحات سياسية
. (الاعلان عن سلّة عملات وصندوق موازٍ للبنك الدولي وصندوق النقد). لكن دول «البريكس» تسعى إلى تحسين مواقعها في إطار النموذج النيوليبرالي نفسه الذي يوفّر لها تبادل التبعية الاقتصادية والسياسية مع أميركا وأوروبا واليابان، ويوفّر لها أيضاً التوسّع في بلدان «العالم الثالث» لتعزيز مصالحها ونفوذها، بأقل ما يمكن من تبادل المنفعة مع هذه البلدان. (كما يدلّ التوسّع الصيني في أفريقيا وشرق آسيا، والتوسّع البرازيلي في أميركا اللاتينية دون تبادل المنفعَة والمصالح المشتركَة مع أفريقيا أو الاتحاد البوليفاري…) إنما تتميّز روسيا عن باقي دول «البريكس» في اعتمادها على قطاعي الانتاج العسكري والطاقة، ولا تعتمد على منافسة السلَع المصنَّعَة في السوق الدولية. هذا الأمر يحدو بها إلى تغليب استقرار «الستاتيكو» الاقليمي، خشية اختراق مجالها الجيوـ سياسي في سوريا، وتهديد مصالحها الحيوية في القوقاز والاتحاد الروسي وامدادات الطاقة نحو أوروبا، بل تهديد موسكو بالاختناق.
هذه التوازنات الجديدة في المنظومة الدولية، ترفع تهديد السيف الأميركي عن رقبة الشرق الأوسط لكنها لا تنقذه من أتون الخراب والتفتيت والاحتراب العصبي، ولا تسمح بتسويات إقليمية كبرى تنقذه من توسّع النفوذ والمصالح الدولية والإسرائيلية، على حساب المصالح الوطنية الجامعة ومصالح الغالبية الساحقة من ناسه ومواطنيه. فالاعتراف الأميركي ـ الأوروبي بإيران النووية يؤشّر إلى تراجع القوّة الحربية الافتراضية، لكنه لا يصل إلى تسوية تسمح لإيران بملء الفراغ الجيوـ سياسي، إذ إن الحقل الإقليمي لا يتسع لقوّة نووية ثانية إلى جانب اسرائيل، بينما تضمن أميركا أمن ومصالح قاعدتها الاقليمية ولا تفاوض عليها. من ناحية أخرى يجمع الحلف الأطلسي بين أميركا وتركيا، كما تجمع أميركا بالسعودية معاهدة الأمن مقابل النفط (كوينسي باكت، عام 1945، التي تجددت لمدة ستين سنة العام 2005). والحديث عن تراجع أهمية السعودية نتيجة اكتشاف النفط الصخري الأميركي لا يرى أن النفط السعودي هو سلاح هجومي بيد أميركا وليس مجرّد سلعة حيوية في السوق. غير أن تراجع القوّة الافتراضية الأميركية يتيح بعض حرية الحركة أمام اسرائيل وتركيا والسعودية التي يجمعها العداء لإيران، بالعمل على توسيع نفوذها ومصالحها في المحيط الحيوي الإيراني (سوريا، العراق، لبنان، فلسطين…). وفي هذا الإطار تتعارض دول «البريكس» مع منحى تركيا والسعودية نحو ملء الفراغ الذي يُخليه «انسحاب» أميركا في منطقَة حيوية تزداد أهمية باكتشاف النفط والغاز في شرق المتوسط، مثلما تتعارض أيضاً مع منحى إيران على المدى الأبعد. بيد أنها ترى أمن ومصالح اسرائيل في المنطقة جزءا لا يتجزأ من استقرار الستاتيكو الجيو ـ سياسي الموروث من الحرب العالمية الثانية.
هذه التوازنات الدوليّة تتيح لإسرائيل استكمال حربي 48 و67 «للحل النهائي» في فلسطين، وتتيح لها كذلك توسّع المصالح والنفوذ. (التعاون الصيني والروسي مع إسرائيل، التغلغل في أفريقيا،…) كما أنها تعزّز تحالف «المحبَطين» في المحور الأميركي لمواجهة المحور الاقليمي المناهِض، في الصراع على النفوذ الاقليمي والصراع على السلطة في البلدان العربية (سوريا، العراق، اليمن، لبنان…). وهو صراع يأخذ طابع الاستقطاب المذهبي والعرقي، نحو تفتيت الجغرافيا البشرية والجغرافيا السياسية بين الجماعات الطائفية والاثنية والقبلية. لكن هذا التفتيت ليس وليد اليوم، إنما هو في سياق التبعية للنموذج النيوليبرالي الذي قضى على الدولة (الوطنية!) الوليدة بتقاسم النفوذ واتفاقيات «سايكس ـ بيكو». (العراق، السودان، اليمن، ليبيا، ولبنان…). فالزحف على دولة «سايكس ـ بيكو» من «المجتمع الدولي» والسلطة الحاكمة من فوق، منذ منتصف السبعينيات، جرّ زحف الجماعات على الدولة في أواخر التسعينيات من تحت.
التحوّل الذي يجري في مصر وتونس، في إطار «سايكس ـ بيكو» والنموذج النيوليبرالي، هو احتراب على السلطة يؤدي إلى احتراب على النفوذ بين دعاة القيَم الدينية أوالمدنية، واحتراب على بقايا الغنائم والثروة العامة بين الجماعات الطائفية والاثنية. ولا فكاك من تغيير هذه المقدمات لتغيير النتائج التي أدّت إليها في العراق وسوريا وليبيا واليمن، والتي تُنذر بامتدادها إلى لبنان والأردن… وهو تغيير في منحى احتراب القيَم وجماعاتها، نحو التحوّل الجيوـ سياسي في إعادة بناء الدولة، مدخلاً لتحوّل السلطة. فهذا التحوّل، نحو الاندماج الإقليمي، يحدّ إلى أبعد الحدود من توتّر الغرائز والعصبيات على أشكالها الدينية والمدنية كافة، في نقل الصراع نحو الرؤى الاستراتيجية والبرامج السياسية والجيوـ سياسية، لإعادة بناء الدولة في ظل التوازنات الدولية والمتغيرات الإقليمية. وهو تحوّل لا يعتمَد على خطابات كلّية ودعاوى مطلقَة، أو فتاوى تغذّي بعضها بعضاً في «الحوربَة» والاحتراب، إنما يعتمد على البحث المعمّق ومشاركة الناس في بناء أسس تبادل المنفعة والمصالح، وحفظ الهويات الوطنية، وفي تخلّي كل دولة عن بعض سيادتها الشكلية لمصلحة سيادة عليا مشتركَة قادرة على حفظ الأمن الإقليمي، وتفكيك التبعية لنموذج الخراب النيوليبرالي. لكن هذا المسار يعتمد في المقام الأساس على مسعى التحوّل العربي لسد الفراغ الجيوـ سياسي في تشكيل قطب عربي، نواته مصر، محل اسرائيل في التوازنات الاقليمية مع إيران وتركيا.
التحوّل الاقليمي الذي تتيحه التوازنات الدولية الجديدة، مرهون بالدينامية الذاتية لتغيير الخراب والاحتراب في أسسه الأرضية المؤسِّسَة. ففي كل بلدان العالم حيث يعمّ الانهيار، تنهض العصبيات الشوفينية وتنفجر فاشية القتل والذبح. ولم يحدث في تاريخ هذه البلدان أن تم القضاء على هذه «الفتَن والمحَن» بغير إعادة بناء الدولة في حقلها الجيوـ سياسي، لتغيير سبُل العمران وأحوال المعاش. فالناس لا يغيّرون معتقداتهم ولا يبدّلون في عصبياتهم تبديلا، إنما يهذّب سبُل العمران وأحوال المعاش من وحشيّة الغابة إلى سلوك اجتماعي آدمي في الدولة.
قاسم عز الدين ــ كاتب لبناني
مقالات اخرى للكاتب