الفصل الثاني
تكلمنا في الحلقة السابقة , وقلنا إن السبب والوتد بشقيهما تعتبر وحدات الوزن العروضي الخليلي الكمي . والكم هو صوت لغوي أقله حرفان آخره ساكن عند الأخفش (1) , والأخفش نفسه استطاع أن يحدد مقياس مشكـّلات الوحدة الكمية للوزن الإيقاعي بقوله " فأقل الأصوات في تأليفها الحركة , وأطول منها الحرف الساكن , لأن الحركة لا تكون إلاّ في حرف , ولا تكون حرفاً , والمتحرك أطول من الساكن لأنه حرف وحركة " (2) , ولكنه اعتبر حروف المد كالحروف الساكنة في قيمتها , ولم يتطرق إلى النبرة والتردد , وهذه مصطلاحات معاصرة كما سنأتي عليها فيما بعد وتركنا بعضها للهامش (3) .
على كل حال من الفصل الأول عرفنا الوحدات الوزنية الكمية هي السبب الخفيف (/ه) ، والسبب الثقيل (//) ، والوتد المجموع (//ه) ، والوتد المفروق (/ه/) .
إذا اجتمعت بعض هذه الوحدات الكمية تشكل الفواصل , فاقتران السببين , الثقيل أولا ثم يليه الخفيف يسمى الفاصلة الصغرى مثل (متفا ///ه ) .
أما اقتران السبب الثقيل بداية مع الوتد المجموع , فيشكلان الفاصلة الكبرى (فعلتن////ه) (4) " .
ولا يتوالى في الشعر أكثر من أربعة أحرف متحركات . ولا يجتمع فيه ساكنان إلا في قواف مخصوصة " (5) , فإذن أصبح لدينا الآن :
سبب خفيف (لمْ) + سبب ثقيل (أرَ) + وتد مجموع (على) + وتد مفروق (ظهْر ِ) + فاصلة صغرى (جَبَلِنْ) + فاصلة كبرى (سِمكتنْ) , فجمعت هذه الوحدات بالجملة الآتية - الكتابة عروضية - : لَمْ أرَ عَلَى ظَهْر ِجِبَلِنْ سَمَكَتـَنْ (6) .
و الحقيقة أهمل الفراهيدي وحدة صوتية لإلتقاء ساكنيين فيها (/ه ه) , ولكن ثبتها حازم القرطاجني ووسمها بـ ( السبب المتوالي ) (7) .
المهم بما أنه من الممكن تشكيل آلاف الوحدات الوزنية المحتمله كأسباب وأوتاد وفواصل من الحروف العربية ,لجأ عبقريـنا الفراهيدي الى حروف عشرة جمعت في جملة (لمعت سيوفنا ) , لتركيب وحدات وزنية قياسية نظامية , مشتقة من الفعل ( فعل ) , سماها ( التفاعيل العشرة ) :
اثنان خماسيان وهما : فعولنْ (//ه/ه) - فاعلن (/ه//ه) .
وست سباعية وهي : مفاعيلنْ ( //ه/ه/ه) - مفاعلتنْ (//ه///ه) - فاعلاتنْ (/ه//ه/ه) - مسْتفْعلنْ (/ه/ه//ه) - متفاعلنْ (///ه//ه) - مفْعولاتُ (/ه/ه//ه) (8) .
إضافة للتفعيلتين المشتبهتين : فاع لاتنْ (/ه/ /ه/ه) - مسْتفْع لنْ (/ه /ه/ /ه) .
وكما ترى مدققاً أن الاشتباه يقع في عدم إعتراف المحدثين بالوتد المفروق كالزمخشري والخطيب التبريزي والقرطاجني , وابن رشيق في (عمدته) عدّ استحسان العشرة أجزاء حكما , والثمانية لفظاَ , وحتى باللفظ نستطيع أن نكملها الى العشرة , إذا قبلنا بمفهوم ( الوقفة اللطيفة ) آخر الوتد المفروق للتمييز , وهناك من يوسمها بـ ( السكتة والنبرة)(9) .
ومن هذه التفعيلات الوزنية القياسية , شكل الخليل خمس دوائر عروضية , وكل دائرة تتضمن عدداً من الأبحر المتشابه في التفعيلات والموسيقى , ولكن تختلف عن أبحر الدوائر الأخرى في إيقاعاتها ونغماتها , وركز الخليل على خمسة عشر بحرأ , وترك الباب مفتوحاً, فأضاف تلميذه الأخفش الأوسط ( سعيد بن مسعدة ) متداركها كما أسلفنا , ولكن سار ابن جني ( أبو الفتح عثمان ت 392هـ) على نهج خليله الفراهيدي في أعداد تفعيلاته وأبحره (10) , أما الجوهري ( ت393هـ ) فجعل الأبحر بمتداركها أثني عشر بحرا (11) .
وربما يطرأ على هذه الأبحر وتفعيلاتها تغيرات , فقد تتقلص التفعيلات المشكلة لبحر ما من ثمان ٍإلى ست فيقال للبحر مجزوء , وإذا تقلصت الى النصف ( أربع تفعيلات ) , فيصبح البحر مشطوراً , وإذا أنهك البحر , ولم تبق منه الا تفعيلتان , فالبحر يغدو منهوكاَ , والمنهوك لا يحدث إلا في البحر السداسي التفاعيل وهذه التغيرات بالنسبة للدائرة تسمى تغيرات خارجية , وأرتبطت هذه التغيرات في العصريين الأموي والعباسي بمتطلبات الحياة اللاهية من غناء ورقص , وما استجدّ من فنون أندلسية مغربية كالموشحات والزجل والمسمطات , وبقت حتى إطلالة القرن العشرين ولجوء رواد شعر التفعيلة , ومن سار في فلكهم من قبل ومن بعد , إليها لضرورة متطلبات النفس القصير , والزمن المثير .
أما التغيرات التي تلحق بالتفعيلات نفسها - التغيرات الداخلية بالنسبة للدائرة - فهي الزحافات والعلل , والزحافات الجارية مجرى العلل , والمتابع العادي لهذا العلم الجميل يعرف أن الزحافات تأتي على ثواني الأسباب , فلا تدخل على أوائله لأنها متحركة وجوباَ , ولا على الأوتاد التي تعتبر أركان أساسية لا يجوز الاخلال بكياناتها (12) , والسبب واهٍ , وزحافه لضعف فيه , ومن الممكن تطوعيه بسهولة , وإما أن تسكن متحركه في الثقيل , فتجعله خفيفا (// ==> /ه) , أوتحذف الحرف المتحرك أساسا (// ==> /) ,أو تحذف الحرف الساكن من السبب الخفيف (/ه ==> /) ,أما تحريك الساكن فلا يجوز , وإذا دخل زحاف واحد على أي من التفعيلات ,فالزحاف مفرد , ولكل تفعيلة زحافها المختص بها , و بأي سبب منها يقع , وإذا حدث , فيلحق إما بالحرف الثاني أو الرابع أو الخامس أوالسابع من التفعيلة حكماَ , و لكل اسمه الخاص , وهو على ثمانية أشكال , وقد يلحق زحافان بالتفعيلة عينها وفي الوقت نفسه , وهذا هو الزحاف المركب , وهو على أربعة أشكال , والزحافات ترد في الحشو وآحياناً في العروض والضرب , وإذا حدثت في بيت ما من القصيدة , لا تلزم أبياتها الاخرى .
أما العلل فهي - قاعدياَ - تغيرات لا تصيب الأسباب أوالأوتاد الا بالعروض والضرب ( نادرا ما تصيب التفعيلة الأولى ) , وتؤدي الى الزيادة أو النقص , فهي تزيد حرفاَ ساكناَ أو سبباَ خفيفاَ , أو تحذف الساكن وتسكن ما قبله , أو تحذف السبب الخفيف ,أو الوتد المجموع وإذا جاءت في بيت واحد , لزمت جميع أبيات القصيدة أن تأتي بمثلها , وشعر التفعيلة متحرر من هذا الشرط .
وإذا لزمت الزحافات كل أبيات القصيدة , سميت الزحافات الجارية مجرى العلل , مثل القبض الذي يصيب عروض الطويل , والخبن الذي يأتي على عروض البسيط , والتزم المولدون بخبن عروض وضرب البسيط المجزوء المقطوع , وهو التزام ما لا يلزم , واطلقوا عليه مخلع البسيط. .، سنأتي مفصلاً على الزحافات والعلل وما يجري مجراهما ومتعلقاتها في الفصل الرابع .
و عموما قد عدّ (الصاحب ) للشعر العربي أربعاً وثلاثين عروضاً , وثلاثة وستين ضرباً (13), وبيت الشعر العمودي له مصراعان , الشطر الأول يسمى (صدرا) , والشطر الثاني ( عجزا) , وآخر جزء من الصدر هي ( العروض ) , وآخر جزء من العجز هو ( الضرب), وما عداهما ( الحشو ) , والبيت الوحيد ( يتيم ) , والبيتان (نتفة ) , ومن الثلاثة أبيات حتى الستة (قطعة ) , وما فوق ذلك فهي (قصيدة ) , والبيت الكامل الأجزاء هو ( تام) , وإذا أصيب بزحاف أو علة سمي ( وافياَ) , والذي تعتري عروضه زيادة أو نقصان للإلحاق بضربه فهو ( مصرع ) , وكل بيت ساوت عروضه ضربه (مقفى ) ,وإذا خالفته في الروي ( مصمت ) و ( المدور) ما اشترك شطراه بكلمة واحدة , وقد يلجأ الشاعر أحيانا إلى ضرورات مقبولة جمعت في بيتين من الشعر , نسبا للزمخشري (14) :
ضرورة الشعرعشرٌعُدَّ جملتها ***وصلٌ وقطعٌ وتخفيفٌ وتشديدُ
مدٌّ وقصرٌ وإسكانٌ وتحركةٌ **** ومنعُ صرفٍ بصرفٍ ثـم تعديدُ
وما هذه إلا تذكرة للعالمين , ومعلومات للدارسين, ربما سنحتاجها من بعد مع المحتاجين .
و على العموم , لما كان الفراهيدي بعبقريته الفذة , وكذلك من جاء بعده , قد بنوا عروضهم ووحداتهم الوزنية بأسبابها وأوتادها وفواصلها على أساس المتحرك والساكن , وتتبعوا كيفية تتابع هذه الوحدات بشكل منظم ومنسق من أجل تشكيل أنغام محددة , تمثلها بحور الشعر بجوازاتها ومجزوءاتها , ولك أنْ تعلم أنّ الأذن العربية لا تستسيغ أنْ يكون عدد الحروف الساكنة أكثر من ثلث حروف المجموع (15), فالنسبة المثالية بين الحروف المتحركة والساكنة (1:2), فالتوازن والتناسب والتناوب خصائص مطلوبة في الشعر , ولكن ما حصره القدماء من تفاعيل وتكوينات , تُعدُّ قليلة في مداها لما تقبله الأذن العربية طرباً , والذوق الفني نغماً , وليس لفسيولوجيا السمع , ولا للتوارث الجيني , ثمة دخل لقبول بعضها , ورفض الأخرى , ما دام لها النصيب نفسه من الإيقاعات الكمية ,هذا ما يقوله العقل ومنطقه ,ويقرّه العلم ومنهجه , وإنما يمكن القول , قد رسخ الموروث البيئي , والتدرب السمعي ,والتعود النغمي , والميل النفسي , هذه التكوينات الشعرية في الوعي واللاوعي , ربما منذ تكوين البويضة الملقحة !
المهم سعى القدماء للولوج الى المضمور والمغمور وغير المشهورفي عالم التكوينات والتفعيلات المشروعة بغية التجديد , ولكل جديد لذة , فسارع القرطاجني الى إدخال وزنه (الدخيل ), بعد ظهور التفعيلة المستجدة ( مستفعلاتن /ه/ه//ه/ه), وظهر معها وزن جديد شطره ( مستفعلن فاعلن فاعلن ) (16) , ومن قبل وضع ابو العتاهية بحراَ , شطره (فاعلن متفعلن فاعلن متفعلن) , ثم طفحت الموشحات بصيغ وتكوينات جديدة , وما زالت الأبواب مفتوحة لإبداعات سديدة.
وحاول (الزمخشري) أن يبين قواعد التزواج بين تفاعيل الشطر الواحد , ثم نبه (زكي عبد الملك ) الى دور التكرار في بناء التكوينات الوزنية, فإمّا أن يكون التكرار خالصاً كما في (المتقارب والمتدارك ), أو مفصولا كما في (الخفيف ) , أو مذيلاً , ونعني به تفعيلتين متشابهتين وذيلهما تفعيلة مخالفة , كما في السريع ( مستفعلن مستفعلن مفعولات ) , والقرطاجني عنده أفضل التركيبات الوزنية , ما جاءت عقبى اقتران التفعيلات المتماثلة وهذه معروفة , أو المتضارعة أي المتشابهة جزئياً في الحركات والسكنات , مثل ( فعولن مفاعيلن //ه/ه - //ه/ه /ه ) في الطويل , أو ( مسـتفعلن فاعلن /ه /ه//ه - /ه//ه) في البسيط , ولكن لا يجوز من الناحية الجمالية تقديم وتأخير مواقع التفعيلتين في المثالين السالفين , وذلك بسبب انفصال الأجزاء المتشابهة كما يرى ( حازمنا )! , وهنالك أمثلة أخرى , وعنده أيضاً أن التفعيلتين (مفاعلتن )و (متفاعلن)متضادتان , لا يمكن منهما أن تتركب أوزان مناسبة , مع العلم أن التضارع موجود - حسب شرحه - في كل مرفوض من قبله (17) , ونحن نرى أن الأذن ستقبل مطربة بالتدريج , كل ما رفض بالتعريج , ما دام للإيقاع الكمي تخريج !، وسنتوسع بازحافات والعلل في الفصل الرابع ، وللضرائر الشعرية القسم الثالث ، وهو الأخير من الكتاب !!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)يقول الأخفش (ت 25 هـ ) في (كتاب العروض ) --الهيئة المصرية للكتاب -1986-ص 143 "وإنما ذكرنا هذا لاجراء الشعر وتأليفه ,لأنه لا يكون جزء أقل من حرفين , الآخر منها ساكن.."
(2)الأخفش : المصدر نفسه , وراجع: سيد البحراوي : العروض وإيقاع الشعر العربي - الهيئة المصرية للكتاب - 1993 - ص 18 .
(3)يمكن اطلاق ( الإيقاع الكيفي ) على إيقاع نبرات شعر بعض اللغات الأجنبية - كالأنكليزية والفرنسية - التي تحتل النبرة فيها صائتاً موسيقياً مميزاً , وأتحفظ على النثر عموما . أما الموسيقا الداخلية (أو الموسيقا النثرية) , فتعني جناس المفردات وطباقها , ومحسناتهااللفظية ,وصورها التخيلية , وجرس كلماتها , ولا يمكن أن يطلق عليها بالإيقاع الداخلي ,لأنها غير منتظمة في الحركة والزمن.
(4)"ومنهم من سُمي الأولى فاصلة ,والثانية فاضلة بالضاد المعجمة " الزمخشري : القسطاس ص 4.
(5) الخطيب التبريزي : الكافي في علم العروض والقوافي ت الحساني حسن مكتبة الخانجي- القاهرة - ط 3- 1994 ص 18 . كل حرف مشدد في التقطيع يعد حرفين , الأول منهما ساكن والثاني متحرك. والحرف المنون يحتسب ايضا بحرفين, أولهما متحرك والثاني ساكن .
(6)راجع الزمخشري :المصدر نفسه, السيد أحمد الهاشمي :ميزان الذهب - دار الكتب العلمية 1990 ص 6. وانظر التبريزي ص 18 الهامش .
(7 )راجع ..حازم القرطاجني :منهاج البلغاء وسراج الأدباء .ت محمد الحبيب بن خوجة - دار الكتب الشرقية -تونس -1966 - ص236).
(8) والجوهري والقرطاجني لم يعترفا بالتفعيلة الأخيرة (مفعولاتُ) , لأنهما يعتبرانها غير أصلية , أو بسبب وتدها المفروق في آخرها.
(9) البحراوي :ص 27 .وراجع أحمد محمد عبد العزيز كشك :الزحافات والعلل في عروض الشعر العربي دراسة وتقويم .رسالة دكتوراه بدار العلوم - القاهرة- 1998- ص 255
(10) ابن جني : كتاب العروض . ت :أحمد فوزي الهيب ط2 الكويت 1989 ص 18- 19 .
(11) ابن عبد ربه الأندلسي : العقد الفريد ت : أحمد أمين ..مطبعة لجنة التأليف - القاهرة 1365هـ ص 135-136 راجع أيضا حول مفعولاتُ
(12) الزحافات قد تصيب الوتد المجموع ,إذاكان آخر جزء من التفعيلة كما في البسيط والرجز , أوخزله كالكامل , أو خبنه كالرمل والخبب والخفيف . راجع البحراوي ص 67.
(13 )الصاحب بن عباد :الإقناع في العروض وتخريج القوافي ص 4 - تحقيق محمد حسين آل ياسين - منشورات المكتبة العلمية - بغداد - 1960م
(14) راجع,محمد سعيد أمير وبلال جنيدي :المعجم الشامل في علوم اللغة العربية ومصطلحاتها ص 574 , في (كتاب العروض ) :لأبن جني ص22 , يذكر و (تحريكٌ) ,ولكن ارى الوزن لا يستقيم .
(15) البحراوي : ص 24 ,
(16)القرطاجني :المصدر السابق, ص 238 -241 .
(17) د علي يونس : مصدر سابق - ص 95 - 98 , راجع القرطاجني : ص 247 وما بعدها .
مقالات اخرى للكاتب