العصر المعلوماتي التواصلي الدفاق ألغى الحدود والمَصدات والمعوقات التفاعلية ما بين الموجودات الأرضية , ففي لحظة مباغتة على أعتاب قرن يتلاشى وآخر يتناهض كالأمواج العاتية , وجدت البشرية نفسها مطلة على جميعها , ومنشغلة بحياكات الشبكات العنكبوتية المتسارعة النسج والإنتاج العولمي المتزاحم الألوان والأشكال والأحجام , وفي حركات تنافسية للوصول إلى غايات مجهولة أو مكنونة في دياجير اللاوعي البشري المضغوط بأهوال القرون , وخيبات الأجيال وإندحاراتهم ومقهوراتهم المعتقة بأقبية الكينونات المهدورة.
في هذا العالم الأرضي الجديد , أصبح البشر هدفا سهلا , ومادة أولية يمكن تصنيعها وفقا لأهداف الشركات والقِوى المتحكمة بمصائر الموجودات كافة , فما أسهل صناعة البشر وفقا للأهداف والغايات والتطلعات المطلوبة أو المرسومة , ذلك أن نظريات السلوك والعلوم النفسية قد تمادت بتعريتها لأليات التفاعل البشري , وتعلمت الكثير من المهارات التي يمكنها أن تسخّر البشر بإرادته الكاملة والقوية المتدفقة , لإنجاز أهداف تعجر عن تحقيقها الجيوش الجرارة في العصور الغابرة.
ووفقا لمعطيات وبرامح محسوبة بدقة ومهارات سلوكية نفسية معززة بالتجارب والأبحاث الرصينة والدراسات المتكررة , يمكن تحويل البشر إلى ما تشاء تلك البرامج والقوالب التي يُصب فيها.
فالدماغ البشري مِطواع ويمكنه أن يتخذ شكل القالب الذي يوضع فيه , عندما تتوفر الآليات الكفيلة بإعادة ترتيب قدراته التواصلية وترابطاته العُصيبية , وبتوفر العوامل المساعدة والظروف اللازمة لإنجاز التفاعل والحصول على النتائج المرجوة.
ولهذا فأن تحويل البشر إلى موجودات مُدمّرة أصبح من أسهل الصناعات وأكثرها رواجا , لأنها تحقق أهدافا وطموحات ما تحققت من قبل , وهذه التطلعات ذات تداعيات خطيرة وقدرات تدميرية فائقة على البشر المُستهدف والمُستخدم للقضاء على وجوده ودوره في الحياة , بعد أن يتم تحويله إلى وباء فتاك على البشرية أن تحترز منه وتعاديه وتسعى لإبادته وتطهير الأرض منه , مثلما تم تطهيرها من الطاعون والجدري والأمراض السارية والمعدية الأخرى.
وهذه الصناعات الشريرة القذرة المنافية للقيم والأخلاق والأعراف الأرضية والسماوية , والمتقاطعة مع أبسط مبادئ السلوك الرحيم , وجدت لها أبواقا وأقلاما وإعلاما , ومُسوقين ومروجين ومستثمرين , وفتحت أسواقا مطلقة لمصانع الأسلحة والدمار البشري , وأسهمت بإطلاق المطمورات البشرية السيئة التي حاولت العديد من الشعوب ضبطها وتهذيبها بالقانون والدستور , وإقامة العدل وتحقيق المساواة وحماية حقوق الإنسان وتعزيزها بالتشريعات والنشاطات الرحيمة المتنامية.
والمعضلة الوخيمة التي تواجهها البشرية أنها أصبحت بلا رأي , وإنما يتم حشو أدمغتها بالآراء المُصنعة وفقا لمواصفات معينة تخدم أهدافا معلومة وخفية , مما يدفعها بإتجاهات حمقاوية مزرية , ستتكلف من جرائها الويلات المتعاقبة والأزمات الفتاكة.
ومن الصعب للحكمة والمنطق أن يجدا لهما دورا في مواجهة الفيضانات الآراءوية , والتفاعلات السيئاتوية الساعية لإذكاء الحروب الجديدة المدججة بمنتوجات العصر الإمحاقية الصاعقة.
وهكذا فأن الآراء تصنّعت وتسيّدت وتمترست في غاياتها وأهدافها , وأصبح البشر بلا موقف أخلاقي , ولا إرادة أو قدرة على تقرير مصيره , وإنما هو موجود مُستلب يتغنى بأوهام الديمقراطية والحرية , وما يحصد سوى المزيد من الحروب والصراعات الدامية.
مقالات اخرى للكاتب