إن من ولد في البصرة، وشرب ماءها، وتشبع بهوائها، وأكل من ثمارها، وعام في ترعها وأنهارها، وأنس لأفيائها، وتوغل في أحشائها، لا يملك، -وهو في المغترب- إلا أن يحملها معه، ويتذكرها بروائح الطين والطلع والريحان والجوري والقرنفل والياسمين والرازقي والقداح وأوراق الآس والشمام وزهور شجرة (البرهام) وبكل ما كان يعبق به سوق العطارين من روائح سحرية.
كان لطعم النبق ما يُذّكرنا بها، كما كان يشوّقنا إليها فقداننا سمك الصُبور الذي كان يهبط من الخليج إلى أنهارها هدية ربانية يشبع في موسمه الفقراء
لقد ذقت (السمبوسة) في غير البصرة لكني لم أذق مثل سمبوسة العم عباس و(الباصورك) و(الجقجق)، تلك الكرزات المملحة لم أجدها في أي مكان آخر، مثلما لم أجد (البمبر) تلك الفاكهة الهندية التي استنبتها البصريون في منازلهم، ناهيك عن (الخرَّيط) المسحوق الأصفر المضغوط والمستخلص من قصب البردي والحلو المذاق والذي اختص بإعداده أهل الريف.
أما البرحي فيظل أحلى ثمار الدنيا التي كنا نفتقدها والتي كان يحلو لبعض الأسر الاحتفاظ بها في غير موسمها مطبوخة ومجففة، فضلاً عن تعود البصريين على إعداد التمر المعسل المُطَّعم بالسمسم والزنجبيل والكزبر والحبة الحلوة، فيما تظل حلاوة (نهرخوز) سرًا لا يعرف تحضيره غير نفر محدود من السكان.
والبصرة صيفها صيف، لهذا فهي شهيرة بعصائرها المتنوعة من زبيب ورمان وتمر هندي وعرق سوس، فضلاً عن لبنها البلدي المثلج. وقبل شيوع الثلاجات الكهربائية كانت المبردات الفخارية المتنوعة (التنكة) هي السائدة، وهي تشكل إحدى المفردات الحميمة التي تسكن خفقات الشوق. أما (الدوندرمة) التي تُجمد بواسطة الثلج فقد تواصل انتشارها في البصرة، وكان لإعدادها خلطات سرية تتباين من منطقة إلى أخرى ومن بائع إلى آخر، وقد تتفوق في مذاقها على ما يُصنَّعه (ماكدونالدز) وغيره من محلات المرطبات العالمية.
ثم هل يُنسى نوم السطوح الذي كان ينمي لدينا الإحساس بعظمة الكون ويربي عندنا نزعة التأمل ويمنحنا - ونحن نجوب الآفاق وننتقل بين الغيم وفوق أكتاف القمر وعبر النجوم المتلألآت - مشاعر مفعمة بالرومانسية والخيال والتفكر بخالق السماوات.
وفي المعقل كنا نتابع الطائرات بأضوائها الملونة الباهرة وهي تقترب من سطوحنا قبل أن تهبط على أرض المطار القريب
كما أن شتاء البصرة شتاء، فأمطاره حين تنهمر لا تكف عن التوقف أيامًا، وفي هذا الموسم نسهر الليالي مع (منقلات) الفحم والشاي المُخدر والبلوط المشوي، فيما تزدحم الصباحات والأماسي بباعة الشلغم والشوندر واللوبيا واللبلبي والباقلاء وخبز العروق وشوربة الماش وغيرها من المأكولات الدافئة. أما (النومي) الذي شاع في العراق وبلدان الشام تحت اسم (نومي بصرة) والذي يستخدم شرابًا ساخنا وشرابًا باردًا في رمضان ومغمسًا مع الطعام، فلم يكن إلاّ ليمونًا مجففًا عماني المنبت والتصدير ولم تكن البصرة غير مركز لتوزيعه.
والبصرة تتميز بطريقتها في إعداد الأطباق. كما تنفرد بطبق الرز المحمر بالسكر والمخلوط بالسمسم المحمص مع السمك المقلي، وبطبخ السمك المجفف المسموط، علاوة على ولع أهلها بلحوم الطيور المهاجرة مثل (الحر) و(الخضيري) و(دجاج الماء) التي كانت تغادر سيبيريا وتحط في الهور القريب.
وأمهاتنا اللواتي لم ينعمن بالشامبو، فقد عرفن (الطين خاوة) وصابون الرقي شامبوات ذلك الزمان، ناهيك عن حنة الفاو التي لا ينافس طيبها إلاّ طيبة أهلها، فيما تظل النخلة تلاحقنا على الدوام وهي التي كانت تقف خارج الأسوار وبين المنازل ووسط الأسواق وعلى ناصيات الشوارع، وكنا نتعامل معها بروح اشتراكية إذ ما كان يخطر ببالنا حين نقطف خيراتها أنها ملك لأحد، وكنا نؤرخ لثمرتها بدءا بطور (الطلع) ثم (الحبابوك) ثم (الجمري) فـ(الخلال الأصفر) فـ(الرطب) وأخيرًا التمر الجاف.
وفي الأردن عرفت بأن للبصرة كعكا باسمها، وما زال كعك الأنصاري صامدًا وقد حييت صاحبه عند زيارتي للمدينة على هذا الصمود
والمقهى البصري واحد من المعالم المهمة، فهناك مقهى للتجار وآخر للعمال، وثالث للأدباء، وقد شهدت مقاهي محلة (الجمهورية) في الستينيات صراعًا شديدًا بين الشيوعيين والقوميين، فيما ظلت مقاهي العشار الوقورة متمسكة بتقاليدها التي تقضي بالجلوس دون السماح لألعاب تحتمل شبهة القمار كالنرد والكوتشينو والدمينو، وقد ظلت هذه المقاهي - على الرغم من عدم إغرائها - مزدحمة يغشاها المتقاعدون والوجهاء والمتعلمون.
أما مقهى (سيد هاشم) الذي يتصدر محلة (السيمر) فقد أبقى على مهابته، وظل المدعو (صبري أفندي) يداوم على الجلوس فيه حتى أواخر الخمسينيات متابعًا - على ما يقوله الرواة - أغنية (صديقة الملاية) التي تخاطبه فيها شخصيًا والتي تقول كلماتها: (الأفندي.. الأفندي.. عيوني الأفندي... الله يخلّي صبري... صندوق أمين البصرة).
إن تضاريس المكان وهي تبرق بالتعاطف تحتفظ في أعطافها بعناصر التأثيث الإنساني الذي يرسخ خصوبة المدينة ويعبر عن مزيجها السحري ونكهتها الخاصه
وفي السياق نفسه تبقى رائحة نيران ليلة (الحجة) التي تُوقد لطبخ الهريسة مشتعلة في الذاكرة، ويظل حيًا إغراء تلك القدور الضخمة التي تمتلئ بها ساحات العشار والخندق في فجر العاشر من محرم الحرام الذي يتحول صباحه إلى مطاعم مجانية يتوافد على قصعاتها الآكلون،
مقالات اخرى للكاتب