تعتصر قلبي المرارة، ويتملكه الاسى لما احس به من آلام مبرحة وانا اتصفح حقبة العراق التاريخية، قارئا سطورها مدركا لصور في المخيال شوهها الزمن الغابر بفعل سنابك خيول الغزاة على مر الدهر ليقتحم أبواب بغداد ومدن العراق، ويعن هنا تساءل الى متى تبقى بغداد عالما خيماً للغزاة المتعاقبين على العراق في قتل ونهب وسلب وخراب اوجعنا، وصدع اصداغنا من اضطراب ومبادلة حميمية مع الغازي المحتل من غير قهره بالروح والموت..؟ في ضوء ما جبلناه على انفسنا في قراءة مأساوية لتاريخ العراق وانسانه الذي انتهكت انسانيته وعرضه وماله تعرض للكثير من المآزق والاحزان مثبورا خائفا قلقا في خيفة من امره اوجعتنا مصائبه كثيرا، منذ قرون مضت وعقود من زمن خلا وحواضره شواهد على عصر الخذلان والاستسلام في واقع منكور خذلته المحنة في سعار طائفي منتشر اليوم في المدن بكثرة بغوغائية مفرطة تتلقفها الدهمائية بعجالة من امرها في وقت لم يكن بالحسبان.. فالمحتل الذي وطأت قدماه ارض العراق ومن معه في استرضاء خفى على تدمير حضارته وتاريخه في فجة يبتغي منها اسقاطه واذلاله على اعتاب الواقع المشين، والمبتلى بالرزايا والخيانة بعد ان كان للعراق الدور الأكبر في تطوير المراجع القديمة والحديثة عن تاريخ العرب وحضارة الإسلام وله الدور الأساسي في تطويرات مختلفة الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية من التاريخ في القرون الأولى الإسلامية وحتى سقوط بغداد على يد المغول وان تاريخ تلك الأزمنة الفياضة بكل أنواع القهر، والهزيمة والنصر والمقاومة والانتصار مراجع لتاريخ العراق.. وتزايد التغلغل الاستعماري، نظرا لاهميته الستراتيجية وارضه الرسوبية ذات الخصوبة العالية تتخللها انهار عظيمة وهي ارض مفتوحة امام الاقوام الغازية من الشرق والغرب وما يملكه من خصائص ومزايا يتمتع بها كان عرضة لاطماع المحتل، فتعرض العراق في تأريخه السحيق للكثير من الازمات، وما شهده من مرارات ومر بسلسلة من الاضطرابات كانت جزءا من فوضى عارمة سفكت خلالها دماء غزيرة على ارضه الندية الطهورة إرضاء لجشع المحتلين وراح ضحية ذلك عدد كبير من الأبرياء.. فان العراق بحكم خزينه المعرفي وارثه الحضاري والإنساني والتأريخي قد استهدف مرات كثيرة على يد الطغاة وشعبه غابت عليه الشقوة مكلوم ضعيف الذاكرة كثير النسيان لا يتذكر الإساءة مضطهد محروم في مجتمعه المأزوم بالهجوس والارهاصات من حالة الذبح اليومية للمواطن العراقي وبشتى الألوان والاجرام في زمن مرير متسخ بالعنف والتسلط يزداد انينا ومعاناة جراء نزوات وحماقات لا تطاق من سياسيه في غياب واقع مأفون سقيم الفكر لا يملك نظم تراعي شرائح مجتمعه بكل فئاته في موائمة مع الحياة الاجتماعية بتقاليدها وعاداتها وسننها الزمنية والتأريخية الذي تسميه الفلسفة الصهيونية بنظرية (كي الوعي) وما سماه الاحتلال الأمريكي على يد المخططين من المحافظين الجدد (بالصدمة والرعب) الذي خاض معاركه في المنطقة العربية تحت راية اليمين المدني المتشدد، وراية السلفية اليمينية، والطائفية السياسية والدينية والمذهبية والقوى الظلامية التي تجد في ذبح المجتمع العراقي غايتها المنشودة والوقوف ضد كل ما هو تقدمي ووطني وقومي عربي تواق للوحدة العربية، وفياض بالتسامح الديني والمحبة الوطنية وتوحيد المجتمع الوطني العراقي من غير تسويف واسفاف ومقت. فالعراق بما يملكه من خزين ستراتيجي من نفط ومعادن وكبريت وفوسفات وزئبق ثمين وما يمثله من موقع جغرافي متميز دفع بهذا البلد ذو الإمكانات المترفة للنفس الى الخضوع للاحتلال الساعي لنهب خيراته وسلب ثرواته النفطية التي تعد صكا مفتوحا له.. واظهر على تعاقب الحقب قدرة على اغناء الحياة البشرية وبناء حضارة واسعة الآفاق ورقعته المتميزة على سطح الكرة الأرضية.. فتاريخ هذا البلد طبع في وجدان العراقيين القدماء، ومن المعاصرين ودبج فصول حوادثه المفرحة والمحزنة وحوادثها المريرة في ذهن الحضارة العراقية العريقة التي تجسدت في بابل كرمز تاريخي واثري معلقا في جيد الحضارة العراقية وبغداد كايماءة إنسانية للتراث العالمي. فالاحتلال الأمريكي الذي لم يكن الأخير في السعي التاريخي لعهود العراق الذي ايقظ فينا مساحات من العتمة التي ارهقتها الهزائم حتى بلغنا من الإحباط والعزلة حتى اخذ منه اليأس مأخذا آثر معه الموت على الحياة في مجتمع شاخ قبل الأوان. وادركته كهولة الحوادث المتتالية لتنبري بالاحتلالات المتعاقبة على ارض العراق التي توالت عبر ازمنة مختلفة العصور مضرجة بدم الانسان العراقي رغم ان الشعب هب بمختلف شرائحه الاجتماعية بثورات عارمة شملت معظم المدن العراقية لمناهضة الغزاة المحتلين الطامعين من اجل نيل الاستقلال. ونفث زفير اساه وخواه في شهيق الخراب والدمار يسرح في ربوع وطن طفق يخصف سوآته نزع مآزره ليبان عريه واوزاره المؤسية ونأى العراق في فوضاه وكأنه هو الاخر يتداول تأريخه عبر صفحات حضارية قديمة على اديم ارضه يتلوى بين النار والرمضاء.. فالعراق مثل اية بلاد يتغير ويتحول وهو كائن حي قابل للخراب والتناسل وقد تعرض لظروف كانت الأقصى والافظع في تاريخه القديم، وقبل الميلاد والتاريخ وهو قابلة مأذونة لانجاب الرجال من رحم ولاد يطمث بالقهر والمعاناة في ولادة أبنائه وينتفض بعد كل محنة من رماده الأسطوري واختفت مخاتير العراق بحواريه وازقته ومدنه ابان سقوط دولته المدوي وانسانه العظيم في اسقاطات كثيرة لم يعد هناك من يحرس اسواره واحراش مدنه، وبساتينه الوارفة الظلال التي تشرق فيها الشمس لتضيئ قلوب العاشقين والمترحمين لاموات العراق، الذين غادروا ارضه بوجع قيظ المهزومين من اشياع وصحبة الأجنبي المتدثر بلحاف العراق. وحواريه تغط في سبات الظلام غارقة بالبؤس، والفضيحة المجلجلة بالعار تعبث على جدرانه خفافيش الظلام والفقر والعوز والفاقة، يخربش الإرهاب حوائطه بالطائفية والتآمر لتخريب العراق في سعي محموم، مرهفا السمع الى انينه ووجعه وآلامه،وظل الخوف يتلبسه منذ اليوم المشؤوم قلقا يفضي الى ضياع في المجهول ذليلا صاغرا لما طوح بلده وخربها في فاجعة غير مبكرة في التاريخ سبقها فواجع المت به لم يستطع إياه الا ان يبكيه دوما في اناة طوال تأريخه، الذي انبرى بالكثير من الويلات والثبور والقتل والتشريد في مأساة لم تدم فيعود منتفضا منتصبا كنخيله الباسقات بعد مدة قد تطول او تقصر يلملم شتاته المبعثر بقامته مرة أخرى وسط المزاحمة الاستعمارية لشعب راض بقسمته من الدنيا والمطوي بالكمد والمرارة والتحسر واخذت منه وطأة الاحتلال سنين من عمر لم يعد قابلا للتعويض نابذا الاضاليل والاوهام منكفئ الى مزارات عند خيبته وخسرانه المبين، والامل يحدوه في الرجاء والخلاص من اوثان الأجنبي وتبعيته من بعض رجال العراق، كتعبير عن حاجة النفس الى المعتقد كنوع من اليقين، فارا من لهيب الاضطهاد ولظاه والجوع والذل والاصغار والحرمان والذات المقهورة ليطهر النفس من رجس الساسة والحكام ومن أطماع الدنيا وشرورها بالايمان. فالشعب يعتري حياته، هاجس مغموس بالمحن تفشيه الامراض والاوبئة تتناسل في جسده الناحل والواهي يعيش حدادا دائما والمار على جمرة وطن ملتهب.. فالعراق ارض الرافدين.. ارض السواد موطن السلالات الاكدية والسومرية والبابلية والآشورية ومهبط آدام وحواء كانا اول ما وطئت قدماهما ارض العراق وبهذا تشير الى اعتقاد قديم عند الناس، بأن العراق هو اقدم موطن للبشرية دون بقية رقاع ارض الله خصائص وميزات وسمات قريبة من الجنة.. دفعت ادم الى اختيار ارضه للنزول فيها، وكان العراق مركز الديانات والبشرية وهناك حقيقة ثابتة في التاريخ وهي ان حضارة الانسان قد وجدت في ارض العراق.. والغزاة البرابرة من التتار والمغول ومن اجناس مختلفة من الغوغاء زهقوا أرواح وعبثوا فسادا في الحياة العراقية، وآخرها الاحتلال الأمريكي الذي كان الاسوأ واشد العهود ظلما التي شهدها التاريخ المعاصر الا ان العراق ظل شامخا اصيلا ورد كل الموجات الغازية معتزا بسيماه العربية، ثاويا في ارض مترعة بالخصب والنماء. فكتب عليه ان يخوض معاركه المصيرية بنفسه من غير معونة تأريخية وسياسية واقتصادية وفكرية في مقارعة المحتل الأمريكي والنفوذ الإقليمي فالغزاة وغلوا في عصور من القدم بالدم العراقي، وفي حاضر اعجف، حاولوا اذكاء الصراعات المذهبية والدينية والقومية في بلد مزقته الازمات والحروب وكوت جباه أبنائه بذل فأفرزت جملة من التحديات غير المسبوقة بالتحرر والانعتاق من عبودية الاستعمار رغم الضعف والعجز مطالبا بهويته الوطنية والقومية في انتماء حقيقي لارض الأجداد وكانت السبق في تسكين بواطنه بقدسية حيث ولد على اديمها النبي إبراهيم الخليل (ع) ومثوى شيت والعزير وادريس ويونس والكفل عليهم السلام وشهدت طوفان نوح (ع) وتضم مرقد اول القوم اسلاما وفارس المشارق والمغارب علي بن ابي طالب (ع) ومراقد الاضرحة من الائمة والصالحين والصحابة وسبط سيد الثقلين وشهدت واقعة الطف وشيد عليها الزقورة واطلال دارسة لانكيدو ونبوخذ نصر القائد التاريخي وملك العراق العظيم، الذي امتدت مساحات انتصاراته الى أراضي واسعة مترامية الأطراف بما جسدته رقمه الطينية الاثرية من شواهد عظيمة للسبي البابلي لليهود، وسنحاريب واشور وسرجون الاكدي وحمورابي في لحظة تاريخية غابرة كانت الحضارة البابلية من البدايات الأولى لتشريع قوانين تجسدت في مسلته الرخامية المشرعة بتنظيم الدولة والمجتمع. فتأريخية الى ما ذكر من سرد لعظماء العراق القدماء يشهد في حواضره اجيالا من الدهماء تبؤوا في احايين سدة الحكم وتربعت على عرش العراق في فترات مظلمة من حكمه المعفر بالقمع والكراهية واللصوصية لتخلف مصائر مفجعة تلاحق العراقي الذي خلقه الله وهو يبكي. وفي ضوء المستجدات الحاصلة في وطن مستباح ان رحيله من خارطة اطلست أوضاعه سياسيا واقتصاديا يعيش قصة لم تنته او هو في اخر غنوة بفصولها وحوادثها الما وحسرة بما كتبت عليه ان يرخي مرحلته بكل ما حفل به الشأن الجاري تخلصا مما هو فيه من لوثة الهزيمة والساسة الذين يلهثون وراء المغانم قبل الجري لحماة وطن تقطعت اوصاله في مصلحة ذاتية اجنبية او دول إقليمية ولشخوص مرموزة سياسيا. وعانى من غياب الدولة المدنية والمواطنة وهو الاقدر على تعزيز مفهومها في نخب وطنية بعضها قابع في المهجر يعتاش الغربة قسوة بمقت ظليم دون عودة لوطن ينتبذ مواطنيه شرقا وغربا والبعض من هؤلاء يجلس القرفصاء في بيوتات نائية عن رذائل السياسة ورموزها وسلطة حكم موبوءة بدنس الدنيا ومعرفتها في حياة سياسية آثمة تعبث الارضة في جدار الساسة، وفي ارجاء واقعها الرث مضطهدة محرومة مهجورة في مجتمع مزحوم بالاسقاطات الذاتية في بلد الندم المؤبد، وموطن العذاب الثقيل.. ما جدوى ان يغوص المرء في كل هذا الركام الهائل من سلسلة الحوادث التي تكون عمر الانسان على الأرض؟ ويلوح لنا في القريب والآتي من الأيام يكتب هذا البلد نهايته ويمحو موقعه من خارطة الاكوان، الذي رسم جغرافيته عبر حضارات خطت في كتاب عنونته ان يمتلك ارثا في القديم والحاضر.
فالانسان في مثل هذه حياة سياسية مدغمة بالعنف والفرهود توهم بأنه يعيش الحرية فيما هو غارق في استلاب سحيق لاقاع له فحياته مشوار نضال خاضه منذ الازل وهو يجاهد في احتشاد الدمع في العيون التي رمدها القهر والعذاب والسنوات العجاف، لم يبللها ويبرأها الزمن الذي كان كفيلا بنكيء جروحه الغائرة في القلب والروح والجسد يتناسل فيه العجز والجوع والظمأ لتحرير نفسه من ربقة الاحزان ومن ليل طويل يؤرقه النعاس في سهد وانتظار نحو شمس بنهار تشرق بين جنباته المعتمة بالاندثار الاحتلالي في عسف ولؤم، ومأزق اجتماعي في طلب الحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة فاحتفظ الانسان في العراق بنشاطه وحيويته منذ اقدم الأزمنة وصمد لما أصابه من محن وشدائد أزال كثيرا منها، وان الثابت في كل هذه المسيرة هو ان مزروعاته لم تذو ومساكنه لم تقفز وجذوة الحياة في اهله لم تنطفئ وقد مرت عليه في حقب وسنوات قيدت فيها حريته وحدد نشاطه وفرضت قوى اجنبية ارادتها على اهله غير ان أيا منها لم يفلح في تبديل سمته، او قلب مساره فأحتفظ اهل العراق بسماتهم الخاصة المميزة، والمتجلية في لغتهم واساسا لكيانهم القومي..
وفي التاريخ القديم امثلة كثيرة عن غزاة أجانب دخلوا العراق مع ثقافاتهم الأجنبية فما لبثوا ان تعلموا لغة اهله وكتبوا بخطهم وقدسوا الآلهة التي يعبدها اهل العراق ولكن في حواضر الأيام فقد العراق الكثير من تلك المميزات.. فأطفأت جذوة الحياة.. وارضه المثرية بالخصوبة في توالي الأيام، ومنذ الاحتلال الأمريكي عام 2003 أصبحت بورا واصابت اهله القحط والجور والفقر وفقد الانسان حيويته ونشاطه الإنساني، وتراجعت المسيرة ليسجل التاريخ المعاصر امثلة على التراجعات والاسقاطات مما جعل الانسان العراقي في وضع لا يحسد عليه، وهو في اسوأ حال في حاضر ينوح وينتحب لما أصاب اهله من عذابات وفقد الامل في الخلاص..
مقالات اخرى للكاتب