كم من الناس يعيشون بيننا، أجسادهم تشاركنا المكان والزمان، لكنهم في العميق من حياتهم، في عيشهم الباطنيّ السريّ يحيون في مكان وزمان آخر؟
اصطنعوا لهم في حياتهم الأخرى ، في المقلب الآخر للدنيا التي نعيشها كوناً لا يشبه كوننا، لهم أصدقاء غيرنا وأقرباء غير مرئيين ونمط عيشٍ لا يضاهيه ضيق الواقع البخيل، ربما بدلوا حتى أسماءهم هناك، حتى لون عيونهم وقسمات وجوههم، خلقوا أنفسهم من جديد، وإذا كانوا يمشون معنا ويأكلون ويتحدثون فلأنهم اضطروا إلى ذلك اضطراراً، هم الهائمون الذين تركوا أجسادهم سائحة بيننا في موطننا الصغير الضيّق لكن أرواحهم معلقة هناك في عالم لا تدركه بعدُ أفهامنا.
تحدث زياد الرحباني في برنامج إذاعيّ له عن طفلةٍ تسكن فوق شقته تماماً، تعزف البيانو، زياد بخبرته الموسيقية قال انها ستتحسن وستكون عازفة، هي لا تفعل شيئاً سوى العزف، اليوم بطوله تضرب على مفاتيح البيانو حين كانت شوارع بيروت مسرحاً لحرب المجانين الذين يقتلون بعضهم بعضاً، حين تكبر هذه الطفلة "يقول زياد" ويسألونها أين كنتِ أيام الحرب الأهلية، ستجيبهم: أية حرب؟ لم أكن هناك، كنت أعزف بيانو!
لو كنا نستطيع أن نتحرر من شروط عيش الواقع لنصبح كفتاة البيانو هذه، هل كنا سنهتمّ للفظائع التي يأتي بها عالم قبيح كلّ ما فيه، قد يسأل أحد: واهتمامنا بالشأن العامّ .. أليس واجباً؟ لعله أصبح واجباً يثقل الضمير بسبب عدم قدرتنا على خلق حياتنا من جديد، بسبب استسلامنا لضعفنا الشخصيّ الذي تركنا غير قادرين على الخلق.
في باريس، في كاتدرائية ريامونت حيث اجتمعنا نحن مجموعة من الشعراء والموسيقيين، كانت هناك فتاة تستقبل الزوّار بابتسامة غامضة وزيّ غريب يشبه الأزياء الأفريقية، كلّ حركة منها مشابهة لحركة في طقس دينيّ، حتى حين تسألها عن مفتاح الغرفة، تصمت طويلاً وتعيد سؤالك بصوت عالٍ ثم تنحني انحناءة متكلفة قليلاً وتجيبك بصوت خافت، هي تعتقد انها ليست من هنا، ليست من هذا المكان الذي تعمل فيه، تدرس الموسيقى، وحين سألناها من أين انتِ؟ أجابت مع انحناءة طبعاً: أنا من أثيوبيا!
المقربون منها يعرفون انها فرنسية جداً، ولا علاقة لها بأية دولة سوى فرنسا، ولم تر أثيوبيا إلا في عالمها السريّ الذي لا يعلم أحد عنه شيئاً، اسمها مارييت، ولا أعرف اسمها في ذلك العالم الذي تعيشه، لعل لها اسماً آخر. إنها هناك، بعيدة المنال، حضورها الجسديّ لا يفعل شيئاً سوى تذكيرنا بأنها ليست منا.
حين أرى أشخاصاً طليقي الروح، أقف جاهلاً ان كان في عالمنا الواقعيّ من الحقيقة أكثر مما في عالم "الأثيويبية" بارعة الجمال "مارييت"، أو تلك الطفلة التي كان الأغبياء يتحاربون وهي تعزف البيانو.