هذا المطر الأسود من تلك الغيمة الصفراء
تلك الغيمة الصفراء، أتت بهذا المطر الأسود الوابل من المآسي والنكبات على رؤوس العراقيين. فكانت الصراعات بين الأحزاب والكتل السياسية من أجل رؤية المزيد من عمليات الفساد والإثراء غير الشرعي، من جانب الذين اغتصبوا السلطة ونصّبوا أنفسَهم حرامية مجازين من قبل الوصيّ الأمريكي على حساب الشعب. فالفساد استشرى في كلّ مفاصل الدولة، ومنه ما حصل بغطاء دينيّ، حين استيلاء وكلاء هذه الجهات على مساحات شاسعة من أراضي ووضع اليد على عقارات الدولة والمواطنين، إن في وضح النهار أوفي الليل، وبمسمّيات مختلفة. ناهيك عن ضياع مليارات الدولارات في مشاريع وهمية وعقود فاسدة وأخرى متلكئة منذ سنوات،أوفي مرتبات ومخصصات خيالية للرئاسات الثلاث وللنواب ومسؤولي الدولة وحماياتهم الخرافية. وهذه جميعًا تُدار وتُنفذ من جهات شريكة في العملية السياسية بغير حق. إنّه وبسبب هذه الصراعات على الجاه والمال والسلطة، وعمليات السكوت عن الجرائم المختلفة التي أصبحت قياسًا لدى جهات متنفذة في السلطة،جرى إغفال، بل والمساهمة والمشاركة الضمنية والفعلية أحيانًا في اقتلاع شعوبٍ أصيلة من أبناء الأقليات الدينية والعرقية من مدنهم وبلداتهم في حزيران وآب 2014. وقد صاحبَ ذلك الاجتياح، اقتراف عمليات إجرامية وأعمال عنف وحشية بلغت حدّ الإبادة الجماعية في النهب والسلب والخطف والقتل والذبح والنحر والاغتصاب والنكاح وبيع النساء والفتيات والأطفال في سوق الرقيق المخزي.
خمسة أعوام مرّت على مجزرة كنيسة سيدة النجاة، والحال لم تصلح، والشهداء مازالوا يتساقطون في ربوع أرض الوطن المحترقة. فيما ضمائر الساسة ومَن أتى بهم أسيادًا على رقاب الشعب البائس، لم تتحرّك من وخزةٍ تطالهم في كلّ يوم وكلّ ساعة. ولهذه الأسباب جميعًا ولغيرِها، فالشرّ مازال قائمًا والقتل متواصلاً والاتجار بالرقيق سائدًا وسرقة المال العام جاريًا، مع قدوم مغول العصر قبل عامٍ، متمثلاً ب"الدواعش"الذين يطلقُ عليهم الغرب لغاية الساعة ب"الدولة الإسلامية". وإن دلَّت مثل هذه التسمية على شيء، فإنّها دليلٌ آخر على ما تتلقاه هذه الجماعات المسلحة من دعمٍ مادّي وتمويل بطرق ووسائل استخباراتية من جهات دولية وإقليمية ومن متواطئين من سياسيين في الداخل، ممَّن باعوا ضمائرَهم مثل غيرِهم من الساسة لدول الجوار وللأجنبي الطامع، على حساب أهل البلد ووحدة الأرض والوطن والحضارة.
هكذا إذن، وقع العراقيون جميعًا، أسرى الأحزاب الدينية والكتل السياسية التي تتغلّف بلباس الدين حينًا والقومية حينًا آخر. أمّا النازحون والمهجَّرون قسرًا، فقد فقدوا أيَّ أملٍ بعودة قريبة إلى ديارهم ومدنهم، لأنَّ رغبة الأسياد ببساطة، لا تتحقق بهذه العودة السريعة في هذه المرحلة، ولم تأتي الساعة بعد! لذا ليسَ أمامَهم، كما هو مخطَّط له، سوى التفكير بالهجرة وترك الوطن والتيمّن صوب المجهول في دول الاغتراب. وهؤلاء، مع الزمن سينسون شيئًا اسمُه القرية والمدينة والوطن! وهذا ما وراء القصد!
هذه هي إرادة الأسياد ومّن يتعاون معهم في تحقيق هذا المخطَّط الشيطاني الكبير، الرامي لإفراغ العراق من مسيحيّيه وأقلياتِه الإتنية والدينية الثرية بتراثِها وتاريخها وحضارتِها وأخلاقِها. فهذا كلُّه، لا يروق للأجنبي الغازي الذي كذب على العالم وسخّر ما في وسعهِ من أجل إزاحة حكم النظام السابق بتلك الطريقة البشعة والإتيان بنظام جديد متهلهل فاقد للأهلية كي يسهل التحكم به وتطويعُه بحسبأهواء الغزاة الطامعين في الإدارة الأمريكية، عدوة الشعوب المستضعفة والمقهورة.
بحسرة نسمع اليوم، مَن يجاهر بنيته نسيانَ الأرض التي زرع فيها آباؤُه وأجدادُه الخيرَ، ولم يحصد أبناؤُهم سوى العلقم والمرّ والغدر والتهميش وأشكال الدونية والنبذ الظاهر والباطن في التعامل السياسي والاجتماعي. نظرة تشاؤمية تسود أوساط المسيحيين والإيزيديين وباقي الأقليات، بسبب الاضطهاد الديني، والتمييز المذهبي، والمضايقات، والحياة الصعبة في المخيمات، وعدم الشعور بالأمان، وكذا بسبب فقدان الثقة بالحكومتين الكردية والاتحادية: الأولى، بسبب إخفاقها في حمياتهم بعد أن احتلّت مناطقهم وجعلتهم أسرى بيدِها ومارست أبشع صور الابتزاز بحقهم، فاشترت الذمم والضمائر حتى في أوساط رجال الدين وأشباه الساسة منهم؛ أما الثانية، فبسبب ضعفِها وعجزِها وانغماس سياسييها في أنواع الفساد الذي استشرى في مؤسسات الدولة ، وكذا بسبب ضعف القضاء الذي تمّ تسييسُه، وغياب جيش عقائديّ وأجهزة أمنية وطنية قادرة على حماية المواطن وممتلكاته وضمان أمنِه وحمايتِه من عبث العابثين ومن ميليشيات سائبة تتستّر بالدين وتستقوي بلباس الحكومة وبعض أجهزتها الأمنية الفاسدة. لأجل كلّ هذه الأسباب وأخرى خافية، لم يجد المواطن العراقي المهمَّش والشريف الباحث عن الأمن والأمان والحياة الحرة الكريمة والاستقرار، سوى التفكير بالهجرة وترك أرض الآباء والأجداد، مرغمًا.
نظرة تشاؤمية، ولكنها واقعية فرضتْ حالتَها وأثبتت صحة نظريتها للعديدين. فلمْ يعد هناك من أملٍ قادم في القريب الآتي، بسبب حالة الإحباط والمهانة التي جرّدت النازح والمهجَّر من كلّ آدميتِه وأخرجته في غفلة من الزمن من خانة الحياة الكريمة، بعد تشريدِ العائلات وتفرقة الأحباء وتشتّت النفوس والأفراد والعائلات في الداخل وبلدان المهاجر. فالأنسان الذي كان حتى الأمس القريب، قبل قدوم "الدواعش"، حرًّا في داره وبلدته ووطنِه، وجدَ نفسَه أمام الواقع، يستجدي ويفتح فاه للمتفرّجين والمتاجرين بمأساتِه، حتى ممّن كان يعدّهم في حساباتِه من الساهرين على حقوقه ومتابعة طلباتِه وسدّ احتياجاته. فقدانُه لدارِه وممتلكاته وتحويشة عمرِه ولعرضِه في حالات مريبة قائمة، قد أفقدته صوابَه واتزانَه البشريّ، وأصبح رهانًا بأيدي اللاعبين السياسيين والمتاجرين بحالتِه المزرية في الداخل والخارج! فما حصل من نكبة، ألم يكنْ طعنة في الظهر وخيانةً للعهد والأمان من جانب شركاء في الأرض والوطن والمصير؟
إذن، هوذا"هابيلُ" يُقتل من جديد. ولكن هذه المرة، على أيدي "قائين" المعاصر المتشح بلباس الدّين والسلطة والشرع والطائفة والمذهب. وما أدراكَ ما "قائين" المعاصر! فهو خلاصة فكر أسياد القطب الواحد، قطب الرأسمالية المادّية ومّن يواليها ويخضع لها من الغرب التابع، الذين يتولون صناعة أسلحة الشرّ القاتلة ويتحكمون في مصير الشعوب المقهورة من أجل إبقائِها على فقرِها من خلال الإيغال أكثر في نهب ثرواتِها من دون وجه حق. وما موقف البابا الثوريّ فرنسيس الأول، حول ما يجري من جرائم في العالم من قبل هذه الدول الغنية، سوى التعبير الحقيقي عن حقيقتهم ورؤيتهم الدونيّة المهينة والفوقية لقيادة العالم. فقد بدا واضحًاانتقادُه لها، من الهيكلية التي يقوم عليها النظام العالميّ الرأسماليّ الحديث. فهذا النظام القاهر والظالم الذي يتحكم بمصير الشعوب والأمم والدول، "لم يعد ينفع، ولم يعد يحتمله الفلاحون ولا العمال ولا المجتمعات ولا القرى. الأرض كلها لم تعد تحتمل"، كما صرّحَ قداستُه، داعيا الفقراء في جولته بأميركا الجنوبية في تموز 2015،إلى العثور على "بدائل خلاقة".
إنها إذن، دعوة صريحة نحو تغيير جذري للنظام الاقتصادي العالمي.وقد صدقت روسيا هي الأخرى في مواقفها الأخيرة ممّا يجري من فوضى على الساحة الدولية، وهي العائدة بتوبتها من نظام الإلحاد، حين أعلنت فشل هذا النظام الذي أرسى له الغرب المتجه نحو الإلحاد واللاأدرية بقيادة أمريكا. وهي بدعوتها لإعادة ترتيب البيت الشرقي والدولي، أكثر مصداقية وأقربَ إلى الشعوب المقهورة من خصومها الدوليين المنافقين واللاهثين وراء النفط والدولار والمتعة بأيّ ثمن! كفانا الله شرّ الأعداء جميعًا، من أية ملّة أو بقعة أو دين أو طائفة، وحمى حمائم السلام والساعين لقول كلمة الحق والفارشين الأرض بالمحبة والرفق والوئام.
مقالات اخرى للكاتب