يوجد شاعر عماني اسمه سيف الرحبي لفت نظري مرة وهو يكتب عن قرية المانية اسمها ( شوبنكن ) قريبة من الحدود الهولندية ــ اللمانية وحوالي نصف ساعة بالسيارة او الباص عن دورتموند . وبنفس المسافة عن مدينة مونستر.
الشاعر العُماني تخيلها بطريقة شعرية ، فبقيت في ذاكرتي وأنا اشعر عميقا أني سأعيش ذات يوم في تلك القرية واكتب نصا في مقاربة الجنة مع هذا المكان وانشره في ملحق تاتو الادبي لجريدة المدى .
كل هذا تحقق بعد سنوات من مقالة الرحبي أو نصه الشعري ، لتشاء الاقدار لاعيش في هذه المدينة واتخيل النص العُماني وخواطر المكان في ذاكرتي فأكتشف اني ارتدي ثوب المكان اكثر منه في شهية الاندماج الروحي والبصري ، فهو سائح من مسقط وربما كان مارا ، أما انا فكنت سائح من دمعة اتت بها اقدار الهجرة لتكون هنا فكان علي ان اعيش لذة المكان الساحر .
تلك المقدمة الايروتيكية التي وضعتها وأنا أعيش أيام القرية الألمانية ( شوبنكن ) ، حيث المدى الساحر لكل شيء ، البيوت ، الحدائق ، الشوارع ، الصمت الذي يلف الأشياء حتى عندما تقود العجائز دراجاتهن الهوائية أو تمر عجلة مرسيدس ببطء يشبه بطء السلحفاة في شاطئ الفرات بعدما تغمرها الشمس بأخبار الحروب والغبار وموت السمك لتضطر كي تعود إلى قاع النهر وهناك تفضل أن تقضي عمرها الطويل ..
هنا في دلمون الدوشلاند ، الأعمار الطويلة تنتهي بمتعة الحب والعناية بلوح الورد وسماع الموسيقى بعد خمسة أيام من العمل في الفلاحة أو التعليم أو فرن الصمون اللذيذ الذي تمنحني ابتسامة صاحبته مزيداً من الأمل بأن موتي السومري سوف لن يجئ مبكراً وأن الأشياء هنا في ( شوبنكن) ، هي لتدوم لا لتقع ضحية تقادم العمر فتمشي بعد ذلك على عكازين.
ففي هذه القرية الهادئة يبدو الجمال مرئيا وحيا فيما فردوس أجدادي ظل مجرد لوح تناقلته الرغبات والأرغفة وخوذ الجنود وشهقة الشهداء ويأس الثمل من نفاد الكأس والقريحة. لهذا ما سأقوله هو أنني باق على عهد الشوق لذلك التراب وذلك الحزن وتلك الزقورات التي يصبغها قير أسى قدر المكان وتاريخه المتعرج كخطوات العكاز المكسور ، فأدرج من ذلك الوحي القديم قصائدي وأعطيها بلاغة الشوق والتأمل فلعل طيفها ينتصر على هذه البيوت التي تتحصن بعطر الياسمين وحركة الأراجيح الملونة والهدوء الذي لو عاشته أمي ساعة واحدة لأخذت مزيدا من العمر ولم تقوس ظهرها أخبار جبهات القتال التي سكنت حتى كتبنا المدرسية وصارت تداف مع عجين الرغيف وتشتعل مع ضوء الفانوس.
في هذا المكان حيث يكون ( كمب ) التوطين المؤقت للمهاجرين واللاجئين ، تختلط الثقافات وتتعايش بحذر ، وربما انا الوحيد بين اكثر من 300 أنسان من يعرف ان في المانيا ولد غونتر غراس وتوماس مان ونيتشه . فحتى المترجمة التونسية التي تعمل في هذا المأوى المؤقت لاتعرف من هو غونتر غراس .
خليط من البشر واغلبهم من ذوي الثقافات البدائية المغامرة ليجيئوا الى اوربا من اجل ان يكونوا عمال مناجم او نوادل في البارات والمطاعم .
عرب من بلدان المغرب اغلبهم من اصول امازيغية . عراقيون مسلمون وصابئة وايزيديين وكرد قلة من الشوام والاتين من الجنوب اللبناني ، صوماليون ، وسيرلانكيون من طائفة التاميل . والكثير من بلدان افريقية وهناك كوبي واحد وراقصة اتت من البرازيل .
وهناك بعض الطاجيك والاوزبك والارمن والقرقيز والشيشانيين وبينهم الكثر من الافعان . وثمة امرأة من النيبال .
يبدو أن شوبنكن التي تخيلتها انا والرحبي قبلي على شكل جنة . فعلا انها جنة للارض ، كما في الخيال البشري الاول الى جنة دلمون الارضية . ولان كتب السماوات تقول ان الجنة تأوي الصالحين من كل بقاء الارض ، الفرق هنا أن شوبنكن تأوي بحنان ووجبات فطورها الساحنة بشر من شتى الارض ولكن بشكل يختلط فيه الصالح والطالح ، وربما من لاينتمون الى ديانة سماوية مساو تماما الى الذين ينتمون الى تلك الديانات.
الغريب ان اغلب هؤلاء لاينتبهون الى سحر المكان الذين يعيشون فيه .
يفكرون بوجبات الطعام وموعد استراحة الظهيرة ليجلب البعض منهم قناني البيرة من السوبر ماركت القريب لينتشوا بشيء لايبدوا بملامح لا يبدو فيها انعكاس روحي ادبي لفعل النشوة معهم .
يسكرون ويهجعون الى قاعات النوم مع شخير مزعج أو يفتعلوا شجارا يكون داميا في بعض المرات فتأت سيارات البوليس وتاخذهم الى المخفر وتعيدهم الى الكمب في اليوم الثاني .ومرات هؤلاء السكارى يتعمدون حرق القاعة حتى يجبروا دائرة الهجرة في المأوى لعمل لهم ( ترانسفير ) اي اسكانهم في المدن حتى قبل موعد مقابلة اللجوء او نتيجتها.
لا اريد ان اذهب الى تفاصيل الحياة الاخرى في شوبنكن ، اريد أن اتذكر تلك الغرابة التي ترتسم على الوجه وخصوصا المغاربة منهم عندما يعرفون ان هناك ديانة في العراق اسمها المندائية او الايزيدية .
المثقفون منهم والمتعلمون يعتقدون اول الامر ان هذين الديانتان هي بعض من الفرق الاسلامية مثل (( السلفية · الأشعرية · الماتريدية · الشيعة (الزيديَّة · الإماميَّة) الخوارج (الأزارقة · النجدات · الصفريَّة · الإباضيَّة) كلاميَّة (المرجئة · المُعتزلة · الجهمية · الحرورية)) او غيرها ـ
وربما اصحاب تلك الديانات العراقية يكونون عاجزين لافهام الامازيغي انهم من ديانة لاعلاقة لها بما يعتقدون بسبب انهم غير مثقفين فيأت الدور علي لاشرح للامازيغ الاصول التاريخية والحضارية والدينية لهاتين الملتين . فتسكن السامع مشاعر متباينة قليل منها يقتنع بكلامي والكثير يبقى في موقف الريبة والشك . وربما تلك الاشكالية تتبدد بمرور الزمن بفضل التعايش والتجارب وما يسميه الالمان ( الانتكراسيون ) اي الاندماج.
بين الأمازيغ والصابئة والايزيدين عاطفة تخلقها القرية الالمانية ولم تخلقها بيئة المكان الواحد الذين كانوا ينتمون اليه ( الوطن العربي ) وتلك مفارقة غريبة وعجيبة عندما نكون نحن سكان الجغرافية الواحدة لانعرف انفسنا ومكوناتنا جيدا إلا عندما يجمعنا المنفى .
وهكذا يخلق التصور الافتراضي شكل المودة التي تحاورت بروح الصراحة والكشف للوصول إلى ذاكرة جديدة لمكان جديد مع اختلاف المذاهب والديانات التي تواجدت هنا عدا اليهودي الذي لن يحتاج ليطلب لجوءا ، فالكل هنا من البوذي الى الملحد الهندوسي الى المسلم والمندائي وغيرهم يعيشون في سثق من التعايش القدري بأرادتهم أو بغيرها ، المهم أن شوبنكن نجحت في خلق المودة بينهم وهي تعلمهم باللغة الالمانية اول عبارات التخاطب الجميل ( كوتن موركن ) أي صباح الخير.
ليست شوبنكن دلمون ..وليست دلمون شوبنكن ...لكني وجدت في أوراق ( غوته ) ما يجعل الجمع بين الشرق الذي أتيت منه وهذا المكان ( الجرماني ) ممكناً.
ومن هذا الممكن تخيلت الشاعر الألماني وهو يجمع مودة الشوق لدية لرائحة القهوة العربية واباعرها وخيام صحاريها وظلال نخيلها الباسق، فأجد إن غوته قد مسك الفهم من خياله فأعطى لذاكرته جموح الذهاب بعيدا فكانت قصائده تؤنس روحه التي استشرفت المكان بعاطفة العاشق. أفعل مثله ولكني أجيء إلى الغرب بشرقيتي لاستغرب منه هذه الأطياف المتماثلة في نقاوة المناخ والروح والصورة ، فأتذكر أمكنة كانت هي ذات يوم ذاكرة لحضارة الخليقة ، أمكنة صنعت الدهور والرجال والأساطير وسفن النجاة ، لكنها غارقة الآن في غبار الحروب وبطاقات التموين وتصفية الحسابات المستعجلة ، فتذوب في الرغبة والحنين وأطلق لهاجس الشعر تخيله الغربي ولكن بروح الشرق تلك التي قال عنها غوته : إنها روح تنبض بإشراق الروح قبل الملامح ، غير إن لهذا المكان ملامح أخرى هي في المقارنة التاريخية لما وصفه الأجداد لدلمون المفترضة تبدو ضعيفة ، ففي هذه القرية الهادئة تبدو الديانات والمذاهب متآخية ويبدو الجمال مرئيا وحيا فيما فردوس أجدادي ( دلمون وعاد وعدن ) ظل مجرد لوح تناقلته الرغبات والأرغفة وخوذ الجنود وشهقة الشهداء ويأس الثمل من نفاد الكأس والقريحة.
مقالات اخرى للكاتب