ألبيت وطن صغير، والوطن بيت كبير، مهما ترامت أبعاده، واتّسعت رقعته، والشائع عند الأنكليز إطلاقهم مفردة (بيت : هوم) على الوطن أو المَوطِن. إذا ناب فرد عن لفيف سكّان البيت ، في الحديث عن منزلهم أو في الإشارة إليه، قال : ” بيتنا”؛ فهو ليس بيت الوالدَين فقط، أو بيت أحدهما، أو بيت أيّ فرد من العيال فقط، بل هو بيت الجميع. كل فرد من العائلة يسكنه، له فيه حصّة وحقوق عامّة ومشتركة وخاصّة. وكل عضو يقيم فيه، عليه نحوَه واجبات عامّة ومشتركة ومخصّصة بعضًا وأحيانًا. وكل تلك المواصفات تنطبق على الوطن (البيت الكبير) وعلى سُكّانه تمام الإنطباق.
فما أحلى الواجبات والمَهَمّات، مهما بلغت مشقّاتها وقيودها وفروضها! وما أنبل وأقدس أن يُحافَظ على تلك الحقوق كما على الواجبات!
هل بعد مناداة البرايا : يا إلهي! ، يا أبي!، يا أمّي! ، يا أخي!، يا حبيبي! ….أعذب في الثغور من مناداة لفظة (وطني!)، والهتاف : يا وطني! ؟
في العراق العزيز: هذا هو شعار العربي والكردي، وهكذا يلهج لسان التركماني ومثله لسان الإيزيدي، والصابئي والشَبَكي، والسرياني والكلداني والآشوري، كلٌ بلغته، وهؤلاء كلهم متآخون، متآزرون، متفا نون في الذودِ عنه ـ كالذودِ عن بيوتهم ـ ويؤدّون بإخلاص واجبات المواطنة الملقاة على كواهلهم. أجل ، هكذا يجب أن يكونوا، وإن شذّ أحدهم أو شطّ أو قصّر، إنتفت عنه صفة “الوطني”، ونأت عنه صفة المواطن الصالح المخلص. وقد أثبتت أصعب الظروف وأقساها التي إجتازها وطننا الغالي، أنهم جميعًا كانوا مواطنين بررة، بلا تمييز ولا استثناء، خلا أنفارًا قليلين يُنعَتون بكونهم طالحين بدلاً من صالحين.
لكنّ المتصيّدين في الماء العكر، ومفرّقي الصفوف، ومثيري النعرات، سعوا وما انفكّوا ساعين لتفتيت هذا التلاحم، وتحطيم هذه البوتقة الجامعة الموحِّدة. ففي العراق العزيز: يصلّي المحمّدي في جامعه ومسجده وبيته كيفما ومتما شاء، ويصلي الموسوي في هيكله أو داره كما يحلو له، ويصلي المسيحي في كنيسته ومسكنه حسب طقوسه وبأيّ لسان. كما يصلي المؤمنون الآخرون في معابدهم، والنسّاك في صوامعهم، والزهّاد في خلواتهم، والفقراء في زواياهم، والبدو على بساط رمالهم، والجبليون على سفوحهم وهضابهم وفي وهادهم، وأهل الهور في صرائفهم كما يشاؤون ويُتاح لهم.
في حديث شريف ورد: ” الأنبياء إخوة، أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد “، فمن العدل والمنطق أيضًا أن يكون أتباع الأنبياء إخوة كذلك. والأديان السماوية وشرائعها، بل حتى البوذية والكونفوشية والتاوية( وهذه الثلاثة ليست ديانات، بل هي عقائد نائية عن الربوبية التوحيدية) تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو لمكارم الأخلاق، وتحثّ على الفضيلة، وتأبى الرذيلة.
وقال مؤسس الدولة(المملكة) العراقية، المغفور له الملك فيصل الأول: “الدين لله، والوطن للجميع″.، وهو الشعار عينه الذي رفعه وردّده في سوريا، كما قال : ” في هذا القطر لا توجد أقلّية أو أكثرية. فالأقلية أكثرية، والأكثرية أقلية” ـ إستنادًا إلى كتاب (الملك فيصل الأول) لمؤلفه الأستاذ علاء جاسم محمد، ط1 ص151 ـ 152.
لكن المغرضين والحاقدين والمفسدين في الأرض، ومفرّقي الصفوف لصالح الأجانب والشياطين، إجتهدوا ويجتهدون في إحداث الفجوات والخروق والصدوع بين المنتمين إلى تراب هذا الوطن ضمن المؤمنين بالله والسماء والأتبياء والكتب المقدّسة، وبين أهل الورع والتقوى، ومحبّي الخير العام والإنسانية الشاملة.
فلينتبه كل مواطن إلى هذه المساعي الشرّيرة، وليكن يقِظًا ! لأن انتباهه ويقظته يشكّلان سورًا منيعًا دون غلبة الشر على الخير، والتعادي على التآخي. ليتذكّر كل عراقي مخلص لربه ونفسه ووطنه، ما جرى في لبنان إبان العقدين السابع والثامن من القرن السابق، وما جرى بعدهما قي يوغوسلافيا خلال عامين من المآسي والفواجع. فهو سيستخلص من الوقائع الدامية والإحترابات الكارثية دروسًا وعِبَرًا تحمي وجوده، وتصون كيان الوطن . وليكن شعاره قولاً وعملاً في السر والعلن: ” الوطن للجميع، والجميع للوطن”.
أمجادنا تحتّم علينا هذا الولاء، وتاريخنا يفرض علينا هذا الإنتماء، بلا تفريق أو تمييز أو تفضيل. في دمائنا قطرات من دماء الأكديين والسومريين والآشوريين والبابليين والمناذرة والعرب قبل الفتح وبعده والعباسيين، تلك القطرات تسللت إلى أبداننا بالتوالد وتعاقب السلالات والتصاهر والتمازج، وحجيرات أجسامنا تغذّت من خلال الجذور التي امتصّت عناصر غذائنا من أديم أأرض الرافدين والهلال الخصيب، المعجون بنجيع أبطالنا وشهدائنا الأبرار الذين شرّفوا تربتها بدماء الشهادة والفداء. فهل من الوفاء أن ننكر هذه الدماء ونسيج اجسادنا، ونتنكّر لهذه التضحيات؟ كلاّ تمّ كلاّ! فالوطن عزيز وحبيب ومقدّس.
رحم الله شاعرنا الرصافي القائل:
إذا جمعتنا وحدةٌ وطنيّةٌ
فماذا علينا أن تعدّدَ أديانُ ؟
إذا القوم عمّتهم أمورٌ ثلاثةٌ
لسانٌ وأوطانٌ وباللهِ إيمانُ
فأيُّ اعتقادٍ مانعٍ من أُخوّةٍ
بها قال إنجيلٌ، كما قال قرآنُ ؟
مقالات اخرى للكاتب